ثمة تناقض منطقي في الكلام على صراع وجودي يكون سياسيا وعسكريا في الوقت نفسه، فالصراع السياسي نسبي بطبيعته، يوظف المواجهات المسلحة المحتملة كأدوات منضبطة بالسياسة، لكنه يحتمل بطبيعته أيضا تسويات وحلولا وسطا ومساومات وصفقات وتنازلات متبادلة... فيما الصراع الوجودي هو صراع نفي متبادل بطبيعته (وإن أخذ الإلغاء، ويفضل أن يأخذ، شكل انحلال تدريجي للعدو). فإذا أصررنا على الجمع بينهما حصلنا على الحرب المطلقة، أي العنف المنفلت غير المقيد بميدان أو بزمان أو بقواعد من أي نوع، العنف الذي يستهدف الاجتثاث الجذري والفيزيائي للعدو، إبادة مجتمعه ومحق كيانه، وليس مجرد فرض الإرادة عليه، على نحو ما تقرر لنظرية الحرب عند كلاوسفيتز التي نستند إليها في هذه المناقشة. هنا تحل الحرب محل السياسة، وتنتفي التسويات جوهريا. وعلى هذا النحو ننزلق إلى صراع عدمي مبدد للموارد ومدمر للحياة، صراع عبثي لا إنساني، رجعي أيضا لا أفق له.
إذن، كيف نتجنب الحرب المطلقة الدائمة (خوض المواجهات العسكرية بمنطق الصراع الوجودي)، وفي الوقت نفسه نتجنب إذابة الصراع في تسويات وتعاهدات سلمية لا تنفتح بدورها على أفق يتجاوزها (اختزال الصراع الوجودي إلى نزاع سياسي)؟ بعلمنة الصراع، أو الفصل بين مستوييه الوجودي والسياسي، فنعمل على تهدئة المواجهة، ونقبل التسويات والصفقات... (كما قد نقبل من حيث المبدأ مواجهات جزئية تتحكم بها السياسة)، ولكن ندرج ذلك في ما قد نسميها استراتيجية تمكين وجودي، تمنح الأولوية القصوى لنهضة مجتمعاتنا وتقدمها وحريتها. هذه المجتمعات، وليس أي نخب أو زعامات غير منتخبة، هي صاحبة الشأن في هذا الصراع. ما الذي تفعله الدول العربية اليوم؟ بعضها، مصر والأردن والسلطة العباسية في رام الله ونخب سياسية وثقافية هنا وهناك، تبرز بحق شرعية التسوية أو حتى وجوبها أحيانا، لكنها تغفل الجانب الوجودي من الصراع، كما لو أن إسرائيل خصم سياسي عادي على نحو ما كانت إنكلترا خصما لمصر يوما، وعلى نحو ما يمكن أن تكون أثيوبيا أو غيرها اليوم. وما يغيب هنا ليس شيئا إدراكيا (الطبيعة الوجودية للصراع)، بل ما يتعين أن يترتب على هذا الإدراك من استراتيجية وطنية مصرية، أعني بناء مصر وأنسنة الدولة المصرية والاعتناء بحياة المصريين وحرياتهم. لم يتحقق تقدم يذكر على هذه الصعد طوال ثلاثين عاما من الصلح المصري-الإسرائيلي. بعض آخر من الدول العربية، سورية خصوصا، ونخب سياسية وثقافية هنا وهناك، تجمع بين قبول واقعي بمبدأ التسوية والصلح... وتصور وجودي للصراع، لكن دون مقتضيات هذا التصور الحضارية والتاريخية، أي بناء سورية وأنسنة الدولة وتمكين السوريين ماديا وسياسيا وثقافيا. السنوات والعقود تمضي، والبلاد تتأخر ونوعية الحياة فيها تتدهور، والتسوية تتعثر والنظام «يستقر ويستمر»، والواقع أن تجنب التسوية ذاته قد يكون أمرا مرغوبا، لكن بشرط أساسي: بناء البلد وتمكين المواطنين، فإن تمحورت استراتيجيتنا الوطنية حول هذا الشرط كان الأنسب في رأينا هو تجنب التسوية والمواجهة معا، أي حالة اللاحرب واللاسلم. وبعض ثالث، المنظمات الإسلامية «حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله» ومساندون لها هنا وهناك، أقرب إلى وضع «الحرب المطلقة»، وقد تقبل بحالة لا حرب واقعية وغير تفاوضية، لكنها ترفض التسوية مبدئيا. إن مفهوم هذه المجموعات لمواجهة إسرائيل يجمع بين تصور الصراع الوجودي والجاهزية العسكرية والسياسية هنا والآن («الحرب المطلقة»). لكن تحول دون التقاء ومطابقة المستويين العسكري والوجودي هنا للإمكانات الواقعية، وليس الاعتقادات الدينية السياسية، وكما قد نتوقع فإن قوى إسلامية كهذه لا تقبل، لا من حيث المبدأ ولا عمليا، علمنة الصراع أو الفصل بين وجهيه الوجودي والسياسي. والواقع أن التعذر العملي للحرب المطلقة مع صدورنا عنها موضوعيا هو ما يفتح الباب لتديين صراعنا مع إسرائيل (ومع الغرب) وما يستبطن احتمالا لتوسل السلاح النووي (السلاح المطلق) من قبل إسرائيل، وهذا ما يتعين علينا تجنبه حتما، وهو مسوغ إضافي لتجنب الحرب المطلقة، المتولدة كما قلنا عن تحويل صراع وجودي إلى صراع عسكري وسياسي هنا والآن.من جهتنا يغدو الدين السند المطلق لمواجهة وجودية لا تتوافر لنا حاليا وفي المدى القريب فرص الفوز فيها، ولا نبادر إلى تحويل وجهتها عن العنف والوسائل العسكرية، لقد خضنا دوما، قوميين ويساريين وإسلاميين، صراعا وجوديا بمنطق سياسي وعسكري آني، لم نتشكك فيه أو نحاول توضيحه وضبط شروطه وحدوده وتوقعاتنا منه. هذا رغم أن جملة السياسات والترتيبات الثقافية التي تتمحور حول صراع مطلق مع إسرائيل تعرض اقتراناً أكيداً بالاستبداد والانحطاط الاجتماعي، وتخلع أركان وجودنا ذاته، وإن أمكن لبعض وقائع الصراع المطلق هذا أن تلحق بعض الأذى بعدونا. والخلاصة أن مصلحتنا تتحقق بالفصل بين البعدين الوجودي والعسكري السياسي للصراع العربي الإسرائيلي، والبعدين ثمة التمكين الاجتماعي والسياسي والمادي لمجتمعاتنا. * كاتب سوري
مقالات
الصراع الوجودي والصراع العدمي (2-3)
25-01-2009