أصبحت مسألة الخصوصية تشكل قضية كبرى في الفلسفة القانونية المعاصرة. أكد إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان «الحق في الخصوصية»، كما أكدته الفقرة الثامنة من المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان. ولكن الفقرة الثامنة توازنها الفقرة العاشرة، التي تضمن «التعبير الحر عن الرأي». إذن، لأي حق تكون الأولوية في حالة التضارب؟

Ad

وتحت أي ظروف يجوز على سبيل المثال تقييد حرية الصحافة من أجل حماية الحق في الخصوصية، أو العكس؟ ثمة بعض المساعي المبذولة أيضاً لإيجاد التوازن بين حق المواطنين في خصوصية البيانات ومطالبة الحكومات بحق الوصول إلى المعلومات الشخصية من أجل مكافحة الجريمة والإرهاب وما إلى ذلك.

إن حرية التعبير تشكل حقاً ديمقراطياً أساسياً. وهي وسيلة ضرورية لتوفير الحماية ضد إساءة استخدام السلطة والتغطية على فساد المسؤولين العموميين. ولقد تجلت أهمية هذه النقطة بكل وضوح في التحقيقات الخاصة بقضية «ووترغيت» التي أسقطت ريتشارد نيكسون عام 1974.

ليس من المدهش إذن أن تكون حرية الصحافة هي الحرية التي تحرص الحكومات الاستبدادية كل الحرص على تقييدها. فبنجاح مثل هذه الحكومات في تكميم الإعلام يصبح بوسعها حتى أن تعقد انتخابات حرة (نسبياً)، كما حدث في روسيا بوتين. ومع القيود الثقيلة التي تكبل الصحافة في أجزاء ضخمة من العالم، فإن شعار حرية التعبير يظل شعاراً جديراً بأن نركز عليه.

بيد أن حرية الصحافة قد تتجاوز الحدود. فمع مرور السنوات أصبحت صحافة «التابلويد» (الصحافة الصفراء) أكثر تطفلاً، مستبيحة لنفسها ليس فقط الحق في كشف الفساد والعجز بين أصحاب المناصب العليا، بل وأيضاً الحق في دغدغة مشاعر القراء بالفضائح والكشف عن الحياة الخاصة للمشاهير.

وبهذا فإن ما بدأ باعتباره ترفيهاً يعتمد على القيل والقال حول أفراد الأسر الملكية ونجوم السينما تحول إلى هجوم شامل على الخصوصية يستند إلى زعم من جانب الصحف، مفاده أن أي محاولة لمنعهم من الدخول إلى حجرات النوم الخاصة يشكل اعتداءً على حرية التعبير.

وضِعَت هذه القضية موضع الاختبار أخيراً في المحكمة العليا في بريطانيا. ففي مارس نشرت صحيفة الفضائح البريطانية الرائدة «أخبار العالم» قصة على صفحتها الأولى تحت عنوان «رئيس الاتحاد الأول ينخرط في طقوس نازية عربيدة مع خمس مومسات». تحدثت القصة عن ماكس موزلي رئيس الاتحاد الدولي للسيارات (الهيئة المسؤولة عن الإشراف على سباقات السيارات على مستوى العالم) وولد الزعيم البريطاني الفاشي السابق السير أوزوالد موزلي، وكيف شارك قبل ذلك بيومين في طقوس سادية- مازوخية معربدة اشتملت على «إشارات نازية» في شقة خاصة بمدينة لندن. ومع القصة نشرت الصحيفة صوراً التقطت سراً بواسطة إحدى النساء بالتعاون مع صحيفة «أخبار العالم»، وهي الصور التي دعت الصحيفة قراءها إلى تنزيلها من على موقعها على شبكة الإنترنت.

اعترف ماكس موزلي بالمشاركة في هذا الحدث (الذي لا يخالف القانون)، إلا أنه أقام دعوى قضائية ضد صحيفة «أخبار العالم» لانتهاكها خصوصيته؛ وزعمت الصحيفة أن فضح الأنشطة الجنسية التي يمارسها موزلي يصب في «المصلحة العامة». إلا أن القاضي الذي نظر القضية رفض دفاع الصحيفة، وأصدر حكمه بتعويض ماكس موزلي بمبلغ ستين ألف يورو (115 ألف دولار أميركي) لانتهاك الصحيفة خصوصيته، وهو أكبر تعويض يُـحكَم به بموجب الفقرة الثامنة حتى الآن. ثمة جانب لافت للنظر في الحكم الذي أصدره القاضي. فقد رفض زعم حماية «المصلحة العامة» في دفاع صحيفة «أخبار العالم»، وذلك لأنه لم يجد من الأدلة ما يشير إلى أن الحفل السادي- المازوخي كان يحمل «طابعاً نازياً».

وهذا يعني ضمناً أن النشر كان سيصبح قانونياً لو اشتمل الأمر على طابع نازي، نظراً لمنصب موزلي كرئيس للاتحاد الدولي للسيارات. ولكن من المؤكد أن الطبيعة الشخصية لنزوات موزلي الخاصة لا علاقة لها بالقضية. فمن الصعب أن أفهم السبب وراء حرماني من حقي في الخصوصية، لمجرد أن الزي النازي ربما يكون أكثر إثارة لمشاعري الجنسية من الشورت الساخن على سبيل المثال.

إن ما أنجزه حكم القاضي في هذه القضية يتلخص في التمييز الحاسم، الضروري للتفكير الواضح في ما يتصل بالخصوصية، بين ما يثير اهتمام عامة الناس وبين ما يشكل مصلحة عامة. كيف إذن نتمكن من تفعيل مثل هذا التمييز؟

تطبق فرنسا قانوناً للخصوصية يحدد بوضوح كلاً من نطاق الخصوصية والظروف التي تستلزم تطبيق القانون. في المقابل، يُـترَك الأمر في بريطانيا للقضاة لتفسير حدود «الحق في الخصوصية». وهناك من يخشى أن تعمل التشريعات المصممة خصيصاً لحماية الخصوصية على تكميم الصحافة ومنعها من إجراء التحقيقات الصحافية المشروعة. وفي الوقت نفسه هناك إجماع واسع النطاق (يخالفه أغلب رؤساء التحرير والصحافيين) على أن القدر الأعظم من التطفل الإعلامي يشكل ببساطة إساءة لاستخدام حرية الصحافة، بهدف وحيد يتلخص في رفع أرقام التوزيع عن طريق تغذية شبق القراء. إن سن قانون يقيد إساءة استخدام سلطة الصحافة بينما يحمي في الوقت نفسه حريتها في الكشف عن إساءة استغلال السلطة السياسية ليس بالأمر السهل على الإطلاق، لكنه ليس بالأمر المستحيل. فالهدف الأساسي هنا يتلخص في عدم السماح للإعلام بالعمل كأداة لإرضاء شبق عامة الناس تحت قناع حماية المصلحة العامة.

إن ما يمارسه المشاهير -بل وعامة الناس أيضا- من أنشطة في حياتهم الخاصة لابد أن يكون خارج نطاق اهتمام أجهزة الإعلام ما لم يقرر هؤلاء الناس منحها الإذن بتغطية هذه الأنشطة أو تصويرها. وربما يكون الاستثناء الوحيد هنا حين تمتلك إحدى الصحف ما يكفي من الأدلة المعقولة للاعتقاد بأن الأفراد المعنيين يخالفون القانون، أو إذا كان سلوكهم، حتى ولو لم يخالفوا القانون يجعلهم غير لائقين لأداء الواجبات العامة المتوقعة منهم.

وهذا يعني أن الإعلام لديه الحق في نشر الأخبار أو التقارير عن تعاطي أحد نجوم الغناء الشعبي، على سبيل المثال، لمواد ممنوعة، ولكن لا حق له في تتبع ممارساته الجنسية (ما دامت قانونية). أما الكشف عن الحياة الشخصية للساسة فقد يكون مبرراً إذا ما اشتُـبه في أن يترتب على سلوكياته الشخصية عواقب قد تؤثر على الطريقة التي تُـحكَم بها البلاد؛ ويصدق القول نفسه على الحياة الشخصية لكبار المسؤولين في الشركات العامة إذا ما أثرت في حجم الأرباح العائدة على حملة الأسهم.

ينبغي أن يكون هذا هو خط «المصلحة العامة» الوحيد المتاح لأي منفذ إعلامي في الدفاع عن نفسه، حين يتعرض لدعوى قضائية نتيجة لغزوه خصوصية الناس. وقد يصبح الإعلام بهذا مملاً بعض الشيء، ولكن الحياة العامة ستكون أكثر صحة.

* روبرت سكيدلسكي، عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ فخري لعلوم الاقتصاد السياسي بجامعة وارويك.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»