استراتيجية واشنطن الجديدة: من الدومينو إلى السيسو

نشر في 30-07-2008
آخر تحديث 30-07-2008 | 00:00
 علـي بلوط نادراً ما تخلو منها حدائق الأطفال في العالم. يسمونها في الغرب «سيسو» وفي شرقنا العربي اعطوها اسم «يا طالعة يا نازلة»، هي عبارة عن لوح خشبي طوله ستة أمتار تقريباً، مثبت في الوسط على قاعدة حديدية بحيث يحفظ التوازن في نصف الخشبة. وفي كل طرف مقعد يجلس عليه طفلان متواجهان ثم يمارسان اللعبة. يصعد الأول فيهبط الثاني والعكس أيضاً. وهكذا تـُدخِل لعبة «السيسو» الفرح إلى قلوب الأطفال من دون أن يتعرضوا إلى أي خطر.

ويبدو أن الاستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه إيران تشبه إلى حد بعيد لعبة الأطفال هذه. طهران تجلس في مقعد طفل وواشنطن في المقعد المقابل، لا ينقصهما إلا البراءة. ويبدأ الطرفان في الصعود ثم الهبوط. فعندما تعلن واشنطن، من دون أن تقول ذلك علانية، أنها تهيئ نفسها لضرب إيران إذا استمرت في تخصيب اليورانيوم، والسعي إلى امتلاك المعرفة والقدرة على إنتاج القنبلة الذرية، تسارع طهران إلى خفض مستوى تصريحاتها النارية وتعد، من دون أن تعلن ذلك صراحة، بأنها جاهزة لحل دبلوماسي سلمي يبعد شبح الحرب عنها وعن المنطقة التي تنتمي إليها جغرافياً. وعندما ينخفض مستوى النار في التصريحات الأميركية، ترتفع وتيرة التهديد الإيراني بإحراق كل ما له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالمصالح الأميركية في المنطقة.

ولعل الفريقين في ممارستهما لعبة «السيسو» صعوداً او هبوطاً يلهوان كأطفال اشقياء في مستقبل المنطقة، وربما العالم، ويضعانه على شفير الكارثة، ويضحكان لرؤيتهما الاعصاب تحترق قبل ان يعودا مجدداً الى وضع خشبة اللعبة في منتصفها المتوازن.

أيضاً، على ما يبدو، فإن واشنطن عندما قررت غزو العراق في 2003 اعتمدت استراتيجية «الدومينو». يقع العراق كحجر أول من أحجار الدومينو المصفوفة واحداً وراء الآخر، وبعد سقوط الحجر العراقي تتبعه سورية وإيران و... إلى آخر المعزوفة. لكن فشل هذه الاستراتيجية في تحقيق أكثر من وقوع الحجر العراقي، جعلها تعيد حساباتها، وتعتمد بالتالي في صراعها مع إيران استراتيجية «السيسو». وربما هذا ما رمت اليه كوندوليزا رايس عندما أعلنت في الأسبوع الماضي تغيير نهجها بالنسبة الى إيران.

إن حسابات العقل تختلف كل الاختلاف عن حسابات اللاعقل. فلو وضعنا في أحدث العقول الإلكترونية وأكبرها حجماً وفاعلية تفاصيل الوضع العسكري والاقتصادي الأميركي على ما هو عليه الآن، وطلبنا منه الردّ على السؤال التالي: هو هل تقدم الولايات المتحدة في ظروفها الحالية على فتح جبهة عسكرية ثالثة، بينما لم تنته بعد من استنزاف الجبهتين الأخريين العراق وأفغانستان لكل مواردها العسكرية والاقتصادية؟ لجاء جواب العقل الإلكتروني بأسرع من لمح البصر: بالطبع لا. ولو سألناه: هل تغامر إيران بتدمير كل ما بنته بعد ثورة الإمام الخميني من أجل كمية من اليورانيوم يمكنها الحصول عليها في ظروف مستقبلية ملائمة؟ وهل العناد الإيراني يمكن أن يصل إلى طريق اللاعودة؟ خصوصاً أنها ربحت وتربح في أيام السلم ما لم تكن تحلم بكسبه أيام الحرب، والدليل على ذلك حربها مع العراق التي دامت ثماني سنوات وكانت نهايتها بإعلان الخميني أنه على استعداد لشرب كأس السم والموافقة على وقف إطلاق النار لإنقاذ جمهوريته من تبعات الاستنزاف الاقتصادي والبشري والمالي، وبالتالي أن تعيش كي تقاتل في يوم آخر. لو سألنا العقل الإلكتروني الكبير هذا السؤال لسارع إلى إعطاء الجواب قبل رفة الجفن: بالطبع لا. إذن، لماذا تستمر واشنطن وطهران في ممارسة لعبة الأطفال هذه، مع معرفتهما التامة باستحالة المواجهة؟ من الضروري ان يتوقف اللاعبون الكبار عن العبث بلعب الأطفال الخطرة قبل أن يتحول المزاح إلى جدّ.

المرشح الديمقراطي للرئاسة «أوباما» قام بزيارته لمنطقتنا وعرّج على أوروبا في لحظة تغيير للسياسة الأميركية للحزب الجمهوري. ومن نتائج هذه الزيارة ظهور وفاق مع فرنسا- ساركوزي على ترتيب شؤون البيت الشرق أوسطي. وكأن ساركوزي قد ضمن نجاح أوباما وراح يتعامل معه كرئيس للولايات المتحدة قبل أن تجرى انتخابات الرئاسة. واستطلاعات الرأي بين الفرنسيين أعطت «أوباما» 86 في المئة ضد منافسه الجمهوري. وبهذا تكون فرنسا، وبالتالي أوروبا «ما عدا بريطانيا» قد توَّجت «أوباما» رئيساً أميركياً منذ الآن. (نيويورك تايمز- 21 يوليو 2008).

العلاقات الشخصية بين أوباما وساركوزي أكثر من ممتازة وذلك بفضل جان دافيد لافيت، السفير الفرنسي السابق في واشنطن ومستشار ساركوزي في شؤون الأمن القومي حالياً. التقى الرجلان في واشنطن عندما كان ساركوزي وزيراً للداخلية في عام 2006 نتيجة نصيحة قدمها «لافيت» للطرفين. ومنذ ذلك التاريخ والاثنان يتواصلان عبر قناة لافيت السرية. وازداد التواصل عمقاً بعد نجاح ساركوزي في انتخابات الرئاسة الأولى الفرنسية. وفي رأي المحللين الفرنسيين أن السياسة الفرنسية الساركوزية قد حسمت أمرها في ناحيتين على الأقل بالنسبة للسياسة الأميركية الخارجية. فهي، من جهة، عقدت تحالفاً مع ساكن البيت الأبيض الجديد قبل أن تطأ قدماه عتبات هذا البيت، ومن جهة أخرى راهنت على أن ينتج هذا التحالف تفاهماً في سياسة البلدين الخارجية حول طرق معالجة المناطق المشتعلة في العالم. أي أن فرنسا ستعود إلى أميركا عبر بوابتها الديمقراطية بعد أن حكمت بالفشل على الجمهوريين. وهذا يعني أيضاً إمكانية حدوث تغيير راديكالي في سياسة البلدين.

هذا كله متوقف على نجاح مراهنة الإليزيه على نجاح أوباما في الخريف المقبل في الوصول إلى البيت الابيض. ويشير أكثر من مصدر قريب من الحلقة الضيقة لصناعة القرار الأميركي- الفرنسي المشترك، إلى أن الرئيس المنتخب «ساركوزي» والرئيس الذي لم يُنتخب بعد «اوباما» قد اتفقا على وضع ملف إيران في أولويات الملفات. والاثنان متفقان على مبدأ الابتعاد عن استخدام سياسة القوة في معالجة هذا الملف، وبالتالي اتباع سياسة الضغط الاقتصادي والسياسي إلى اقصى الحدود لاستعادة طهران إلى الحظيرة الدولية.

كذلك فإن باريس اليوم وواشنطن غداً يعربان عن ثقتهما بامكانية ايجاد مخرج يحفظ للجميع- وبالأخص إيران- ماء الوجه من دون الحاجة إلى استخدام القوة العسكرية. وما يؤكد صحة هذا القول، أن موسكو وبكين سارعتا إلى مباركة هذا الاتجاه، وهما تنتظران لحظة إعلان أوباما رئيساً للولايات المتحدة للتقدم بمسعى مشترك مع باريس وواشنطن بصيغة لا تغضب إسرائيل كثيراً، لكنها في الوقت ذاته لا تحقق أحلام وطموحات طهران كلها. وما يرضي أحلام وطموحات طهران بات معروفاً؛ فهي تسعى أولاً وأخيراً إلى انتزاع اعتراف دولي بشرعية انتمائها إلى نادي صناعة القرار الاستراتيجي في الشرق الأوسط إلى جانب إسرائيل وتركيا التي استعادت أخيراً كرسيها في عضوية هذا النادي. مقابل ذلك فإن إيران مستعدة للتعاون إلى أقصى الحدود نووياً وغير نووي. ومن اليوم إلى أن تتحقق هذه النبوءة تفصلنا فترة زمنية قصيرة معرضة للمفاجآت غير السارة، مثل حدوث اصطدامات عسكرية في الخليج تتحول إلى مواجهة تنسف المخططات والآمال جميعها. وما يزيد هذه الفترة حساسية إمكان إقدام إدارة بوش على عمل عسكري بالتعاون مع إسرائيل قبل خروجه من البيت الابيض، لا لاستعادة رصيده الذي فقده إلى الأبد، بل لتوريث الإدارة الديمقراطية جبهة قتال ثالثة، خصوصاً أن اللوبي الصهيوني في واشنطن مازال يرفع الصوت لتدمير النظام الإيراني، وليس المفاعلات النووية فقط، وقد رفع أخيراً شعار: الآن وإلا فلا (NOW OR NEVER). وهذا الأمر لم يغب عن بال أوباما وساركوزي حيث وعد أوباما القيام بمهمة صعبة وهي صبّ المياه الباردة على أعصاب الجمهوريين المتوترة وعلى رأسهم نائب الرئيس ديك تشيني الذي تؤكد المعلومات أنه استلم الملف الإيراني بالقوة نفسها التي استلم فيها من قبل الملف العراقي في عام 2003.

الأيام والأسابيع والأشهر المعدودة المقبلة حُبلى بالمفاجآت. والأمل لم يُفقـد بعد بأن تكون برداً وسلاماً على الجميع.

* كاتب لبناني

back to top