عند التقاء شارع المعز لدين الله بشارع الأزهر في القاهرة تقف مئذنة الأشرف بارسباي لتطل على الآثار الإسلامية الموزعة على جانبي الشارعين، وكأنها عنوان لما يمكن أن يراه زائر للقاهرة وهو يتجول بين أرجائها.

Ad

ومدرسة الأشرف بارسباي أعطت بعد تشييدها تسمية حي الأشرفية لهذا الجزء من شارع بين القصرين، بعد أن كان يعرف قبل ذلك بالعطارين، رغم أن حوانيت العطارة مازالت تتواجد بكثافة حول المدرسة الأشرفية.

ومشيد المدرسة هو أحد أعظم سلاطين دولة المماليك الشراكسة في مصر، هو السلطان الأشرف بارسباي الذي بدأ حياته العملية مملوكا للسلطان الظاهر برقوق الذي أعتقه وألحقه بخدمته ثم استمر في خدمة ابنه الناصر فرج بن برقوق حيث تولى معه عدة وظائف مهمة منها نيابة طرابلس الشام ودوادارية السلطنة "الدوادار هو صاحب الدواة”.

وفي الثامن من ربيع الآخر سنة 825هـ "1422م” تولى سلطنة مصر وظل يحكم البلاد إلى أن توفى يوم 13 ذي الحجة سنة 841هـ "1438م” وأنجز خلال حكمه أعمالا إدارية ومعمارية وحربية بارزة، وظل طوال عهده محبا للعلماء والفقهاء.

وشرع الأشرف بارسباي في إنشاء هذه المدرسة عام 826هـ بعد أن هدم مجموعة من الحوانيت القديمة التي كانت تشغل موقع المدرسة، وتم الانتهاء من تشييد إيوان القبلة بها في ٧ جمادى الأولى سنة 827هـ "1424م” فافتتحت للصلاة بينما كان العمل جاريا في إنشاء بقية إيوانات المدرسة، وسجل نص الإنشاء التاريخي على الواجهة الرئيسية وهو:

"بسم الله الرحمن الرحيم إنا فتحنا لك فتحًا مبينا” - إلى قوله تعالى "نصرا عزيزا” "صدق الله العظيم” أنشأ هذه المدرسة المباركة سيدنا ومولانا السلطان المالك الملك الأشرف أبو النصر برسباي خلد الله ملكه بمحمد وآله يارب العالمين وذلك بنظر العبد الفقير إلى الله تعالى عبدالباسط ناظر الجيوش المنصورة غفر الله له وللمسلمين في مدة أولها شهر شعبان في سنة ست وعشرين وثمانمائة وآخرها سلخ جمادى الأولى في سنة سبع وعشرين وثمانمائة”.

ورغم ذلك فإن الحقائق التاريخية تشير إلى أن البناء انتهى فعليا بالمدرسة في عام 829هـ "1425م” وهي السنة التي نجحت فيها قوات المماليك البحرية في حصار جزيرة قبرص وغزوها، بل وأسر ملكها الذي أحضر للقاهرة وبقى بها أسيرا إلى أن دفعت له فدية ضخمة.

وكانت السفن القبرصية قد هاجمت ميناء الإسكندرية فصمم الأشرف بارسباي على غزو الجزيرة وتأديب ملكها "جيمس”، وبمناسبة هذا الانتصار الباهر قام السلطان بتعليق خوذة ملك قبرص على باب المدرسة الأشرفية تذكارا لهذا النصر وظلت باقية بعد ذلك لمدة قرنين من الزمان حيث عاينها المؤرخ الإسحاقي في القرن الحادي عشر الهجري "17م” قبل أن تختفي.

ومئذنة المدرسة تقع في الطرف الجنوبي للواجهة الشرقية وهي تعلو مدخل المدرسة وهي من عدة دورات. والدورة الأولى متعامدة الأضلاع على غرار قواعد المآذن المملوكة وفي كل ضلع من أضلاع هذه الدورة فتحة لإضاءة السلم الداخلي وتوجت هذه الفتحات بعقود مدببة من صنجات على هيئة وسائد متلاصقة وترتكز العقود على أعمدة حجرية رشيقة. وتتقدم كل فتحة شرفة أذان صغيرة محمولة على صفوف من المقرنصات الحجرية.

وتنتهي الدورة الأولى بثلاثة صفوف من المقرنصات الحجرية المعقدة التصميم تبرز تدريجيا عن سمت جدران المئذنة لتحمل شرفة أذان مربعة لها درابزين أو سياج حجري زخرف بواسطة التفريغ بزخارف هندسية بديعة.

أما الدورة الثانية فهي ذات مقطع أسطواني مستدير وحليت بزخارف نحتت في الحجر على هيئة قضبان تتقاطع في أعلاها بشكل حرف الميم وهي زخرفة كانت شائعة في عمائر العصر المملوكي وتعرف في مصطلح أهل الصنعة باسم جفت لاعب ذي ميمات، ويمتاز هذا البدن الأسطواني برشاقة تفصح عن اهتمام مصمم المئذنة بتحقيق التوازن بين قطر البدن وارتفاعه.

ويتوج الدورة الثانية صفوف من مقرنصات حجرية ذات دلايات وتختلف في تصميمها عن مقرنصات الدورة الأولى، ولكنها تشابهها من حيث بروزها عن الجدران وأنها تحمل شرفة أذان. وجاءت شرفة الأذان الثانية مستديرة ويحيط بها درابزين حجري مماثل في زخرفته لدرابزين شرفة الأذان الأولى.

وأخيرا تأتي الدورة الثالثة أو الجوسق المفتوح وهو مؤلف من ثمانية أعمدة رخامية رشيقة وكانت هذه الأعمدة قد تعرضت لبعض التلف فأعيد تشييدها في عام 1945 بمعرفة لجنة حفظ الآثار العربية. وتحمل هذه الأعمدة قبة صغيرة تعرف في مصطلح العمارة المملوكية باسم القلة وتنتهي بسفود من الحديد.

وتعتبر مئذنة مدرسة الأشرف بارسباي نموذجا لمآذن العصر المملوكي الشركسي التي تميزت بالرشاقة والميل إلى تنويع مساقط دوراتها الثلاث بين المربع والمستدير مع غلبة الروح الزخرفية عليها لاسيما الإسراف في تنفيذ الزخارف الحجرية.

والمئذنة في هذه المدرسة تحقق إلى جانب وظيفتها المعمارية كمرقى للمؤذنين التوازن المعماري لواجهة المدرسة والتي شيدت من مداميك من أحجار صفراء وحمراء تعرف بالنظام المشهر في البناء.

ففي مواجهة المئذنة بالطرف الشمالي للواجهة قبة حجرية ضخمة زخرفت خوذتها بأشكال هندسية شبيهة بحرف الدال، ولذا فهي تعرف باسم الزخارف الدالية ونفذت بدقة كبيرة بواسطة الحفر المباشر في الحجر.

ويمهد المدخل الرئيسي لانطلاق المئذنة ويمتاز بالترف الزخرفي الواضح إذ كسي بالرخام البيض والأسود ومكتوب على جانبيه في الرخام "بسم الله الرحمن الرحيم وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا. صدق الله العظيم”، أنشأ هذه المدرسة المباركة مولانا السلطان سلطان الإسلام والمسلمين قاتل الكفرة والمشركين محيي العدل في العالمين قسيم أمير المؤمنين خادم الحرمين الشريفين المالك الملك الأشرف خلد الله ملكه.. ويبدو واضحا أن هذا النص نقش بعد انتصار السلطان على ملك قبرص في عام 829هـ.

وإلى جوار هذا المدخل تم تشييد سبيل ماء فوقه مكتب لتعليم الأطفال الأيتام مبادئ القراءة والكتابة ونقش أعلاه "أمر بإنشاء هذا المكان المبارك ابتغاء لوجه الله تعالى وطلبا لرضوانه سيدنا ومولانا السلطان المالك الملك الأشرف أبو النصر برسباي خلد الله ملكه”.

أما المدرسة ذاتها فهي مؤلفة من صحن أوسط مكشوف تحيط به أربعة إيوانات أهمها وأكبرها إيوان القبلة. وكانت جدران هذا الإيوان مكسوة بالرخام إلى ارتفاع يزيد قليلا على المتر ولكن هذه الأشرطة الرخامية انتزعت ولم يبق منها سوى ما هو قائم الآن في جدار القبلة على جانبي المحراب، وبنفس ارتفاعه وبها أثر تذهيب. وكسيت عقود الشبابيك بصنج رخامية مزررة كما يوجد بها إفريز رخامي منقوش ومكتوب بالخط الكوفي.

وتتجلى روعة الزخارف الرخامية بهذه المدرسة في زخارف المحراب الدقيقة وزخرفة أرضية الإيوان الذي اشتمل وسطه على دائرة رخامية بأشكال زخرفية ملونة تضاهي زخارف السجاد. وفيما فقد السقف الأصلي لإيوان القبلة احتفظ الإيوان الغربي المقابل بسقفه الأصلي وهو من رقعة خشبية واحدة وحلي بدوائر وسرر مذهبية نقشت على أرضية باللون الأزرق اللازوردي.

ومدرسة الأشرف بارسباي من المنشآت القليلة التي سجلت نقوشها بيانًا بالأوقاف التي رصدت للإنفاق من ريعها على وظائف التدريس وصيانة مبناها وأوضح السلطان الغرض من ذلك بنص طريف جاء فيه "أمر بكتابة هذا السطر المبارك مولانا المقام الشريف السلطان الملك الأشرف بارسباي خلد الله ملكه تذكرة لمن يلي نظر المدرسة المباركة وصيانة الجهات الموقوفة عليها وعلى ذريته وغير ذلك على ما يشهد به كتاب الوقف المبرور..”.