شيء ما يجعلني أرى هذا الرجل «عملا فنيا» مدهشا، كالقصيدة، كلوحة تشكيلية، كموسيقى ساحرة، كلما تعمَّقت معرفتك بهذا «العمل» كلما أدهشك ما تكتشفه فيه.
هذا هو محمد أشكناني الذي أعرفه. خلال المرحلة الجامعية في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي كان أشكناني العقل المفكر، والمنظّر لقائمة الوسط الديمقراطي و«عرابها» في جامعة الكويت، وأحد الأرقام الصعبة في معادلة العمل الطلابي، ثم عرفت خلال تلك المرحلة والمراحل اللاحقة أنه فنان من رأسه حتى أخمص قدميه، عازف بيانو جميل، وعاشق للموسيقى ومتابع لها، ذاكرته غنية بأهم الأعمال الموسيقية العالمية، وإنجازات مبدعيها، ومتذوق للفن والأدب بشكل عام، وقارئ لا يمل صحبة الكتاب. منذ المرحلة الجامعية إلى هذه اللحظة، مرت سنوات كثيرة، تغيّرت مواقف، وتبدّلت مبادئ، واختلفت رؤى، وانكشفت نوايا، وتقطّعت أنفاس، وتلوثت أخرى، وبقيت أصابع أشكناني محافظة على رشاقتها وموهبتها في التعامل مع البيانو، وآرائه الفكرية المبدئية. له طريقة مميزة في النقاش والجدل الفكري، رأيه غالبا لا يكون معلبا جاهزا يملؤه لاحقا بالتفاصيل، على العكس من ذلك تماما، فرأيه أشبه بلوحة جدارية من الفسيفساء تشكلت أساسا من تلك التفاصيل، لذا يكون حديثه عميقا يصل إلى جوهر الأشياء وروحها. استمعت لمحمد في نقاشات عديدة، كان هادئا، لا يرتفع صوته خلال النقاش عن مستوى معين، وكأنما بحسه الموسيقي يحرص على «دوزنة» صوته حتى لا يصبح نشازا، والأجمل من ذلك أنه من أكثر الأشخاص الذين عرفتهم دراية بما يقول، ولماذا يقوله، وبعد أن يعرض وجهة نظره بكل ما يملكه من ثقافة ثرية، ومنطق عميق، تجده دائما يعطي إشارات ذكية للطرف الآخر كي يعرض وجهة نظره ويدافع عنها من خلال جُمل توحي بأنه- أي أشكناني- ليس متأكدا مما يقول، أو أنه ليس واثقا من صواب رأيه وأنه لا يملك الحقيقة، مع قناعته التامة، على الأقل حتى تلك اللحظة، بما يقول، وهذا أجمل ما يأسرني في طريقته في النقاش، لا يحاول مصادرة رأيك، ولا يسخّفه حتى وإن كان كذلك، ولا يوحي لك بأنه منغلق على ما يعتقد، مع إيمانه بما يعتقد، كما أنه خلال نقاشه مع أي شخص، يحاول في ذات الوقت أن «يفهم» آلية تفكير هذا الشخص، ومنطلقاته الفكرية والنفسية التي قادته للوصول إلى ما يعتقده صحيحا، وهذه الميزة تحديدا هي ما تجعل محمد من أكثر الأشخاص «تفهما» لوجهة نظر الآخر حتى لو لم يتفق معها. ومن الميزات الكثيرة في شخصية محمد أشكناني أنه لا يمهّد للآخر طريق المعرفة، وإنما يجعله يشاركه متعة اكتشافه، كما أنه لا يعطي الآخر انطباعا بأنه سابق له في هذا الطريق، وأنه على معرفة تامة بمعظم شوكه وأزهاره، وإنما يسير بجانبه ويشاركه حرارة دهشته، وفرحته الطفولية بما يرى ويعرف. وبرغم كل ما يتمتع به من شخصية إنسانية راقية وغنية، فهو متواضع، خجول، تربكه كلمة مديح، وينزوي خلف ظله أمام شبه الإطراء والثناء، ولا أستبعد أنه سيتوارى عن الأنظار بعض الوقت لو حدث وقرأ هذا المقال. هذا بعض ما يدهشني في هذه اللوحة الفنية التي اسمها: محمد أشكناني.
توابل - الرواق
آخر وطن: لوحة اسمها محمد أشكناني
09-01-2009