ما رأيك في أن يكون بمتناولك كتاب متوسّط الحجم، هو بحد ذاته «مكتبة كاملة» يمكن أن تحتوي مئات أو حتى آلاف الكتب؟! وماذا سيكون شعورك إذا طلبت كتابا جديدا من المكتبة، فوجدته قد وصل إليك في بيتك حال دفعك ثمنه، دون أن تحتاج إلى حساب الأيام والأسابيع من أجل وصوله بالبريد، ودون أن تقلق لاحتمال ضياعه في الطريق؟

Ad

إن مثل هذا الأمر الذي يشبه المعجزة، أو يعد من ضروب الخيال، قد أصبح اليوم، حقيقة واقعة، بعد أن خرج من دائرة أخبار المبتكرات التكنولوجية، ليدخل، بسرعة لافتة، دائرة الاستخدام اليومي المألوف.

صحيح أن هذا الاستخدام لا يزال في بداياته المتريثة، إلا أن ظاهرة مبيع نسخ هائلة العدد من أجيال «قارئ الكتاب الإلكتروني» الجديدة، في الولايات المتحدة وفي بريطانيا لاحقا، تشير إلى أن ثورة كبرى قد وقعت في ميدان النشر، وأن أحدا لن يكون بمنأى عن تأثيرها في المستقبل القريب.

فبعد أن أطلقت شركة أمازون في أواخر العام الماضي إصدارها الخاص من «قارئ الكتاب الإلكتروني» المسمى «كندل» في الولايات المتحدة، والذي نفدت دفعته الأولى بسرعة لا تصدق، أطلقت شركة فيلبس، في مايو الماضي، قارئ الكتاب المسمى «إيلياد»، ثم دخلت شركة سوني الميدان بإصدار «قارئها» الخاص الذي نفدت جميع نسخه في الساعات الأولى من عرضها في فروع مكتبة «بوردرز»!

وعلى الرغم من تفاوت أثمانها فإن تلك الأجهزة كلها تشترك في الميزتين الأساسيتين اللتين أحدثهما التطوير: الأولى هي استخدام «الورق الإلكتروني» الذي يبدو للقارئ كالورق العادي، مما يجعله مقروءاً حتى في ضوء الشمس، ومريحا للعين على عكس ما هو حاصل في شاشة الكمبيوتر ذات الإشعاع النفاذ، والثانية هي أن هذا الورق يمكن تقليبه بالطريقة التي تقلب بها صفحات الكتاب الورقي، أي إلى الامام أو إلى الخلف، وليس بطريقة «اللف» أو «الطي» المعتادة في الأجهزة القديمة أو في الكمبيوتر، هذا إضافة إلى أن الجهاز المحتوي ابتداء على مئة كتاب أو أكثر، يسمح، عن طريق رقاقة الحفظ والتحويل، بتحميل عدد غير محدود من الكتب، سواء تلك المبذولة مجاناً على الإنترنت، لانتهاء مدة حقوق نشرها، أو تلك المشتراة من المكتبات.

إن انتشار هذه الأجهزة ينبئ بأن منافساً جدياً للكتاب الورقي قد دخل سوق النشر بقوة لم تشهدها تلك السوق منذ فجر الطباعة، خصوصا أن الأجيال الجديدة من الناس هي أجيال إلكترونية حتى العظم.

لكن السؤال القائم هو: هل سيحل هذا «الجهاز المحمول» محل الكتاب التقليدي تماماً؟ بالنسبة لي كقارئ مبتلى دائما بحصار أكداس الكتب المقروءة واعتدائها على مساحة السكنى بمرور الأعوام، أجدني مدفوعا للاقتراب من هذه الظاهرة الجديدة، بإغراء الاختزال وحده، الذي يتيح لي أن أحتفظ بكتبي كلها، دون الاضطرار إلى اختراع مختلف الحيل من أجل حشرها هنا أو هناك بما يوحي بأن المكان لايزال متسعاً!

لكنني أعتقد أن اقترابي هذا سوف لن يؤدي بي سريعا إلى دخول هذا العالم، وذلك لسببين: أولهما حذري المرضي من الأجهزة الإلكترونية، وثانيهما عشقي الأزلي للكتاب الورقي، صحيح أن كثيرين ممن هم على شاكلتي قد أبدوا استعدادهم لاجتراح هذه المغامرة، معولين على أن كل جديد يحتاج إلى فترة من التجريب حتى يصبح أمرا معتادا، إلا أنني لاأزل في شك من قدرتي، بسبب هذا الإغراء، على الإقلاع عن إدمان لذة لمس الورق، أو استنشاق رائحة الحبر الطازجة، خصوصا أن تجربتي الأولى لهذا الأمر لم تكن أكثر من مشاهدة عن بعد لواحد من هذه الأجهزة في مكتبة «بوردرز» وهو نموذج كان ملتصقا بالطاولة، رأيت شاشته التي تبدو بالفعل كالورقة العادية، لكنني لم أستطع استخدامه للتحقق من مميزاته، ثم إنني وسط الرفوف المتطاولة المزدحمة بالكتب الورقية الأليفة، كنت كمن يقف بين حشود بشرية من لحم ودم، ليشاهد نموذج إنسان آلي! وعلى أي حال، فإنني ما زلت أستطلع آراء المجربين، قبل أن أغامر بدخول التجربة.

وقد تيسر لي، في هذا الباب، أن أطلع على آراء عدد من البريطانيين المشتغلين في الصحافة أو الكتابة، فوجدتها تتردد بين النفور والقبول، لكنني في الحالتين وجدت فيها شيئا كثيرا مما في نفسي.

فهذا «بيتر كونراد» وهو كاتب عمود في «الأوبزروفر» قد أبدى رأيه ضمن تحقيق حول الموضوع نشرته الجريدة قبل شهرين، فقال إنه اكتشف عند تجربته جهاز «إيلياد» أنه مجرد كتاب «مجازي» لأن ما تقرأه هو صورة مطبوعة رقميا، أي أنه طباعة من دون طباعة، ترفرف في سحابة رمادية على الشاشة، بعيدا تماما عن جاذبية الطباعة بالأحرف المطبعية أو أناقة خط يد الإنسان.

وأضاف أنه ليس مفيدا أن يقال لك إن الشاشة تبدو كورقة بالنسبة لعين القارئ، سواء في داخل البيت أو خارجه، وذلك لأنك عندما تحمل كتابا (حقيقيا) فإن حواسك كلها هي التي تخبرك بأنك تتعامل مع ورق... ورق أصلي منتج من لب الأشجار!

أما الروائية «نعومي ألدرمان» التي تشكو من تراكم الكتب في شقتها، فقد رأت أن تخزين الكتب في هذا الجهاز يبدو أمرا فاتناً، وأن التجربة تركت أثرا كبيرا في نفسها، فالجهاز، برأيها، خفيف الوزن، غير سميك، سهل الحمل، والنصوص فيه مقروءة بشكل جيد، والتحكم به غير معقد، إضافة إلى أن نظام تحميل الكتب الجديدة بسيط جدا، وأن كل ما على المرء أن يفعله، لكي يتآلف مع وضع القراءة بهذه الطريقة، هو أن يتناسى الجهاز الناقل وأن يركز على الكلمات.

لكنها، من ناحية أخرى، تعترف بأن تجربتها ليست إيجابية كلها، فتقول إن تشغيل الجهاز وفتح الكتاب يستغرق دقيقة كاملة، أما إغلافه فيتطلب خمس عشرة ثانية. وهذا قد لا يعد وقتا طويلا، لكنه بالمقارنة ليس بسهولة فتح أو إغلاق الكتاب العادي. ثم إن قلب الصحفة يستغرق ثانيتين، فيما هو في الكتاب العادي يتم بأقل من عُشر الثانية.

وترى «ألدرمان» أن الأكثر أهمية من كل ذلك هو الحذر من هشاشة الجهاز نفسه، فالكتب الورقية مرنة تماما، ويمكن إلقاؤها على الأرض بلا مبالاة، وإذا ضاع الكتاب الورقي أو سرق فإن من الممكن شراء نسخة بديلة عنه بأقل من عشرة جنيهات، بينما يكلف جهاز «إيلياد» مثلا أربعمئة جنيه تقريبا.

وتخلص إلى القول بأن «قارئ الكتاب الإلكتروني» إذا أصبح شعبيا بما يكفي، فلابد أن يظهر نوع خاص من (التأمين) عليه. أما إذا انتشر بكثافة عالية فإن ثمنه وثمن الكتب المتعلقة به سينخفضان تلقائيا، إضافة إلى أنه سيلقى تطويراً حثيثا من أجل تلافي جميع المشكلات الراهنة.

والأكثر إثارة بالنسبة للكتاب الإلكتروني هو ليس ما يستطيع تقديمه في اللحظة الراهنة، لكن ما يمكن أن يقدمه لنا في المستقبل، فأن تكتب الأعمال خصوصا من أجل «قارئ الكتاب الإلكتروني» هو من أكثر الأمور المتوقعة إثارة: كأن ترى صور اللوحات أو التماثيل المتعلقة بالحقبة التي يتحدث عنها كتاب ما، أو أن تسمع زقزقة العصافير عند قراءة مشهد معين من راوية رومانسية... إلى غير ذلك مما يخطر أو لا يخطر في البال. وقد يرى البعض أن أمورا كهذه هي احتيال أو خيانة للقراءة الصحيحة، لكن تعايش أنواع مختلفة من النصوص أمر ممكن جدا، دون أن يعني ذلك إلغاء أحدها للآخر. فالكتاب المسموع، مثلا، لم يقتل الكلمة المطبوعة والتلفزيون لم يقتل الراديو. وعليه فإن ما نراه هو ليس موت الكتاب، ولكن ولادة شكل جديد له.

ومن جهة أخرى، تنظر الكتابة «ليني تراس» لهذا الأمر من زاوية العلاقات الإنسانية، فتقول: إننا في عالم الكتاب الإلكتروني لا يسعنا أن نرى ما يقرأ الناس. وأنا شخصيا أستمتع حقا بملاحظة ما يحمله الناس من كتب خلال رحلتي في القطار، وقد تيسرت لي، ذات مرة، محادثة ممتعة مع شاب كان يضع ملاحظات على نسخة من كتاب «أركاديا» لتوم ستوبارد.

أما الروائي «ويل سيلف» فيقول: إنني أصلاً أكره الكمبيوتر، وعليه فإنني لا أشعر بأن الكتاب الإلكتروني سيكون ذا فائدة لي بوصفي قارئاً، أما بالنسبة لي ككاتب، فلو شرع الكثيرون في استخدام هذا النوع من الكتب، فإن النتيجة، بصراحة، ستكون كارثة على صناعة الكتاب. ولذلك فإن من الصعب أن أشعر بالتفاؤل.

* شاعر عراقي

تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية.