رواية فرانسوا فايرغان «ثلاثة أيام عند أمي» الحائزة جائزة الغونكور عام 2005 هي الكتابة السهلة الممتنعة، كتابة تبدو سهلة عند قراءتها، ولكنها في الحقيقة كتابة في غاية الصعوبة والتعقيد، الناتج من تقنيتها المتشابكة والمتقاطعة في الزمان والمكان، كل الأحداث تنتقل في مشاهد سريعة ومتداخلة بعضها مع بعض، تقطيع متلاحق يتطلب من القارئ التركيز الشديد حتى لا تفلت منة المشاهد في مروقها الوامض، شريط سينمائي سريع الومض، عليك أن تلاحق ومضاته بدقة. ولأن فرانسوا فايرغان قد درس الإخراج السينمائي، وأصلا هو كاتب للعديد من الأعمال الدرامية التلفزيونية والسينمائية؛ لذلك أتت الرواية بتقنية الفيلم السينمائي.
يحكي من بدايتها عن نيته كتابة رواية اسمها «ثلاثة أيام عند أمي» ويرغب في أن يمضي تلك الأيام بالفعل عندها، وتبتلع الرواية كل ما يخطر على البال من دون أن تصل بالقارئ إلى تلك الأيام الثلاثة عند أمه، ولكن حضور ذاكرة الأم تقتحم المشاهد في حنان وحميمية موجعة، فهي تقول له حين هاتفها «لم أرك في نهاية الأمر كثيرا» ويكتب عن ذلك: «إنها الطريقة في تحرير الحب الذي نكنه؛ وإلا فسيكون الأمر خانقا. بعد أي حلم أو أية أحلام يقظة توصلت إلى التفكير بأن أمي كانت ثعبان بوا، أشعُرُني قادرا على ترويضها، إذا ما سارت الأمور على نحو سيئ، بوا لا تهاجمني أنا، بوا ملائكية بمعنى ما. لكن ثعابين البوا يمكن أن ترغب في ضمك بقوة شديدة مدفوعة بمحض وبمجرد اللطف، كما تفعل معظم الأمهات. لكني لم أكن أنوي أن أترك نفسي أُبتَلع بمثل هذه السهولة، سيتعين لمواجهة أمي، أن أصير بدوري أفعى كوبرا ملكية. أخافتني هذه الصورة، تخيلت صورتنا نحن الأمهات في نظر أولادنا، هل من فرط حبنا لهم نتحول بدورنا إلى إلى أفاعٍ قاتلة؟ الكاتب في الحقيقة يحب والدته ولها دورها الكبير في حياته حتى وهو في الخمسين من عمره تصطحبه إلى المستشفى لفحص صدره وهي تقول له: «آه لو أستطيع أن أبدل رئتيك برئتي». ويقول: «هل يمكن أن يعرف المرء حياة أبويه أبدا؟ ألا نقضي حياتنا دون أن ننتبه إلى الناس الذين نحبهم». وفي نهاية الرواية يذهب إليها في المستشفى وليس في بيتها بعد أن تأخر في الحضور كثيرا. وكتب: كنت أقول لنفسي إننا لا نكتب إلا من أجل أمهاتنا، إن الكتابة والأم مترابطتان». وتضم روايته إلى جانب هذا الهاجس بالأم، كل ما يخطر على البال، أقصد بال الكاتب، من محاولات كثيرة للهروب من الكتابة. وعلاقته مع الكتابة وتشريحه، لفعل الكتابة. وهذه مقتطفات من ملاحظاته: * الرحالة الحقيقي نزق. إنه يرحل للرحيل، إنه لا يعرف ما ينتظره. إنه يشبه الروائي الذي يحذر بمقدار ما يحرر. *حين أشتري الفليفلة، أختار الأجمل، والأمتن كما لو أنها تصور من قبل «ويستون». *فكرتي، أنه بقدر ما نملك من الثقافة، بقدر ما نتسلى. حين نقوم بالمشتريات، أختار البطاطس ثناء على «فان جوخ» والسلاطات وأنا أتذكر «رابليه» أفكر بـ«ديوجين» الذي كان يهدي التين إلى «افلاطون». * كان يعرف أن الصمت بين رجل وامرأة لا يكادان يعرفان بعضهما يقيم بينهما تواطؤاً أشد إثارة من الكلام. كان ينتظر اللحظة التي ستقول له فيها: بماذا تفكر؟ *ما الفائدة من الكتابة عن الموتى؟ ألا يعني ذلك دفنهم مرة ثانية؟ «ثلاثة أيام عند أمي» رواية تستحق القراءة، حتى وإن أخذت جهدا كبيرا من القارئ لمتابعة انهمار المشاهد وتشابكها وكثرة المعلومات فيها.
توابل - ثقافات
ثلاثة أيام عند أمي
14-07-2008