مثيرات الكتابة قد تختلف من كاتب إلى آخر، أو من فنان إلى آخر، ولعل أهمها الشغف الذي ذكرته في مقالة سابقة ضمن هذه الزاوية، ولكن هناك محرضا ومشهيا ومفجرا لا يقل أهمية عن الشغف، يستدعي الكتابة ويسرع في نمو خصوبتها وحضورها، وهذا المحرض هو الرائحة المرتبطة بحاسة الشم والتذوق. للرائحة دورها الكبير والمهم في خلق عملية الإبداع والإخصاب، وقد يستغرب من قولي هذا الكثير ممن ليس لهم علاقة بهذا المحرض، أو ربما لم يكتشفوه بعد ولم ينتبهوا الى دوره في عملية توليد الخلق الإبداعي.

Ad

الرائحة تعمل على تحريك الحنين والشجن المخبأ في ذاكرة مطموسة وغائرة في غموض اللاوعي منا، بحيث تهزنا بأشواق لروائح تخترقنا بحنين معذب، وتدفعنا بإصرار إلى البحث عن ذاكرة هذه الروائح التي قد تكون مرتبطة بأمكنة منسية، أو بأشخاص معينين، أو حتى بأشياء غير مفهومة تنادينا بإصرار للحاق بها والمجيء بها. وهذا الرحيل صوبها والإتيان بها هو جوهر الكتابة الذي يستدعينا عن طريق هزنا وقلقلتنا ونكش أعماقنا بهذه الروائح الغامضة، المثيرة لأشجاننا المطموسة في غموضها النائي البعيد. هناك كتاب كثيرون كتبوا عن تلك الروائح التي أسقطت ثمارهم، ولعل الكاتب الفرنسي مارسيل بروست هو خير من كتب عن الرائحة والطعم في رائعته الخالدة «العالم المفقود»، ومن ذاكرة الرائحة جاءت أكثر كتاباتي، فمثلا من ذاكرة منطقة السالمية القديمة ورائحة البحر البكر البريئة التي لم يعد لها أي وجود الآن ليس بالكويت وحدها بل بكل دول الخليج، جاءت روايتي «الشمس مذبوحة والليل محبوس» ورواية «النواخذة» أتت فيها رائحة الصحراء حينما كانت صحراء بكل عنفوانها وبريتها وليست صحراء اليوم المطورة والمحدثة بكل أنواع الاستهلاك المدني الحديث. وللأسف أصبحت مدننا الخليجية بلا روائح طبيعية لا الصحراء ولا البحر الذي فقد بكارته تماما، فلا قصيع ولا قواقع ولا نباتات بحرية ولا كوس، حتى مدننا الخليجية أصبحت ترتدي «ينفورم» موحد، فرائحة مطاعم الهمبورجر والبيتزا والشاورما والفلافل وغيرها من وجبات سريعة ومقرمشات ومقالي امتصت كل أنفاس البحر وأكسجين روحه، ومسحت الحدائق المصنعة والأرصفة الأسمنتية تضاريسه الطبيعية وخلقت منه مسخا وماء بحر بلا هوية؛ لذا حنيني يزداد لذلك البحر الذي لم يعد له وجود ولا أمواج تتردد بكوسها وقصيعها الأخضر إلا في ذاكرتي المطموسة.

الرائحة لا تتوقف على عملية الإبداع وحدها، بل إنها تخص الجميع، ولها دورها الكبير والمهم في التربية على الحب والارتباط بالأم والوطن وسائر العلاقات، فالإنسان بلا ذاكرة الرائحة هو فرد بلا قلب. لأن الرائحة هي ذاكرة الحنان والارتباط بالأهل والأحباب والأمكنة والوطن، وربما حبنا لأمهاتنا ما هو إلا ذاكرة الحنين إلى رائحة مياهنا الجنينية المشتركة في ذاك الرحم الغامض. لذا يجب أن نزرع في ذاكرة أطفالنا كل ما يربطهم ويذكرهم بحب الأسرة وحب الطبيعة المحيطة بهم، وحب الوطن والأمكنة فيه، عن طريق تدريب حواسهم وتنبيهها للتمتع والتشرب والامتصاص والاختزان لكل هذه التفاصيل الثرية المارقة بهم، لأنها بالفعل هي كنز وزوادة لعمرهم كله، لذا احرصوا على بذر روائح الحياة المتنفسة بيننا وبينهم، لأن هذه الرئة ستعمل على تأصيل وتوثيق ذاكرة المحبة والحنين.