Ad

إن حجب الاعتراف، هو عينه ما يجعل من ذلك الضرب من الاستقلالات الانفصالية، مجرد عملية ضمّ أو انضمام إلى القوة الحامية، ويلغي السيادة من حيث يوهم أنه يمنحها أو يقرّها.

يلوح استقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عن جورجيا، في نظر جمهرةٍ واسعة من المراقبين، ومسارعة روسيا إلى احتضان ذلك الاستقلال اعترافا، وربما دورها في الحض عليه وفي ابتعاثه إيعازا، ثأرا لموسكو من استقلال كوسوفا عن صربيا، خطوة موازية ومماثِلة، مماثَلةَ السن للسن والعين للعين.

لا سبيل، بطبيعة الحال، إلى إعادة التوتر الروسي-الجورجي ولا ذلك التوتر الأشمل، الروسي-الغربي، إلى ذلك الهاجس الثأري والاقتصار عليه، إذ يتعلق الأمر بداهةً بصراع نفوذ متعدد الأبعاد، ليس مصير أوسيتيا وأبخازيا الجنوبية غير تفصيل من تفاصيله قد يكون ضئيلا مجهريا، قياسا إلى توجس روسيا من امتداد حلف شماليّ الأطلسي شرقا، حتى تخومها القوقازية، وربما إلى المجال «الروسي» ذاته، إن حذت أوكرانيا حذو جورجيا وطمحت بدورها في الانضمام إلى ذلك الحلف، إلى هموم استراتيجية أخرى، تتعلق بالنفط والغاز ومسالك امداداتهما، وبالأوضاع في تلك المنطقة التي يمكن وصفها بـ«البطن الرخوة» لآسيا، والممتدة من القوقاز إلى وسط تلك القارة، ملتهبة تتكثف فيها عوامل انفجار كثيرة، إذ هي مجال يقظة قوميات وإثنيات وسباق على امتلاك أسلحة الدمار الشامل ونفط وأصولية... غير أن ظاهرة الاستقلالات تلك ليست مما يُستهان به، إن كانت، على ما يبدو وعلى ما قد تؤشر إليه السابقات الثلاث المذكورة، منحى جديدا في صراع النفوذ. إذ لا غرو في أن كلاّ من أوسيتيا الجنوبية وأبخازايا لا تمتلكان من مقومات الاستقلال ومن أسباب الاستواء دولتين-أمتين أكثر مما هو في مستطاع كوسوفا. ففي الحالات الثلاث تلك، تعلق الأمر بتوق انفصالي تحقق استقلالا بفضل إرادة خارجية، غربية (أوروبية-أميركية) في حالة كوسوفا، وروسية في حالة أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.

نضع هنا جانبا السؤال حول مدى وجاهة ذلك التوق الانفصالي وحول مدى شرعية دوافعه، مع أنه قد يكون مفهوما، في ما يخص كوسوفا وسكانها على الأقل، أولئك الذين سامهم الطاغية الصربي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش بطشا وتقتيلا كانا يُبيّتان إبادة ويسعيان إليها. لكن ما يهمّنا هنا هو الجانب القانوني للمسألة، وهو الجانب الذي يستثير إشكالات قد تبلغ مبلغ المخاطر على نظام الحياة الدولية.

إذ يقوم النظام ذاك، حتى إشعار آخر، على الدولة-الأمة كلَبنة تأسيسية ومكوّنة، صحيح أن الدولة-الأمة تلك لا تعدو أن تكون إطارا قانونيا افتراضيًّا في حالات كثيرة قد تكون غالبة، لا يعكس اندماجا وطنيا حقيقيا، وصحيح أنه قد نالها ما نالها من بعض أمارات التجاوز والانتهاك، أقله بفعل العولمة التي جعلت مفهوم السيادة نسبيا أو على قدر من نسبيّة، وصحيح أنها قد لا تكون الصيغة الأمثل وأنها لم تكن يوما، في تطبيقاتها، براءً من حيف ومن إجحاف، ولكنها تبقى مع ذلك، وبالرغم من كل تلك التحفظات، أساس المعمار العالمي والمبدأ الناظم للعلاقات بين الدول.

ومن هنا خطورة ما أقدم عليه المعسكر الغربي، إذ أقرّ استقلال كوسوفا، التي يعتبرها القانون الدولي جزءا من الدولة-الأمة الصربية، وخطورة ما أقدمت عليه روسيا، إذ أوعزت باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية غير عابئة بسيادة جورجيا، بحسب القانون الدولي إياه، عليهما. في الحالات الثلاث، تمثل الأمر في اجتراءٍ أحادي الجانب، غير قانوني وغير شرعي، لا يستند إلا إلى القوة، وهو إلى ذلك قابل لأن يتكرر في كل آن ومكان، حيثما توافر نزوع انفصالي وإرادة خارجية داعمة وحامية وحائزة على ما يمكّنها من ذلك من أسباب السطوة، ما ينذر بفوضى لا حدود لها ولا قرار.

وذلك ما فهمته أو حدست به دول العالم، خصوصا تلك التي تستشعر ضعفا وهشاشة في بناها الداخلية، إذ سارعت تحجب اعترافها بتلك الاستقلالات الناشئة، من ذلك أن الدول العربية أحجمت عن المصادقة على استقلال كوسوفا بالرغم مما يربطها، افتراضا، بسكانها المسلمين من وشائج التعاطف وأواصر التضامن الديني.

غير أن الأمر ذاك، أي حجب الاعتراف، هو عينه ما يجعل من ذلك الضرب من الاستقلالات الانفصالية، مجرد عملية ضمّ أو انضمام إلى القوة الحامية، ويلغي السيادة من حيث يوهم أنه يمنحها أو يقرّها. فألا تنال كوسوفا من اعتراف غير ذلك الذي يضمنه الاتحاد الأوروبي ومن ورائه الاتحاد الأوروبي، وألا تصيب أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية من اعتراف غير ذلك الروسي، فمؤدى ذلك، وفق ما تمليه قوة الأشياء ومنطقها، أن الأمر يتعلق باستتباع وإلحاق ولا شيء غير ذلك. صحيح أن بونا شاسعا يميز بين الالتحاق بفضاءِ رخاء وحريات وديمقراطية كذلك الأوروبي وبين الانضواء في نصاب هيمنة سمته الغالبة هي الاستبداد شأن ذلك الروسي، إلا أن الأمر يبقى، في الحالتين منافيا، جوهرا، لمبدأ الاستقلال المُدّعى.

يبقى والحالة هذه أنه ما لم تهتد المجموعة الدولية إلى صيغة أفضل وبديل عن الدولة-الأمة، فإن هذه الأخيرة هي التي يجب أن تظل إطار التعايش بين مختلف الفئات المكونة لكيان من الكيانات، في كنف الديمقراطية والإقرار بالحقوق.

* كاتب تونسي