تقوم الفلسفة العامة التي تحكم عملية «الدفع» على أمرين أساسيين: الأول هو أن النفس البشرية تنزع بطبيعتها إلى الشر في أغلب الأحيان، وهي أقرب للفجور منها إلى التقوى، ما يستدل عليه من قول الله تعالى: «ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها» (سورة الشمس، الآيات: 7- 10). فالآيات قدمت الفجور على التقوى حين تحدثت عن سمات النفس الإنسانية، لكنها عادت لتقدم التزكية على التدسية حين حضت على مقاومة شرور النفس، ودفع كل ما ينحرف بها عن مجال الخير ومداره.

Ad

والثاني هو مركزية قيمة «الصراع» في الحياة الاجتماعية والعلاقات الدولية، حيث شاء الله تعالى أن يظل الناس في تهارج وتصارع حتى قيام الساعة، منذ أن تصارع قابيل مع أخيه هابيل وحتى تشرق الشمس من المغرب، وهذا الصراع يتفاوت في الدرجة، ويتعدد في الأشكال، لكنه موجود دوما، ومرده ليس فقط حظ الشر من النفس البشرية، وتربص الشيطان بها، بل أيضا العوامل المكتسبة والمتجددة، ومنها ما هو سياسي، يتجلى شقه المحلي في التضاغط بين السلطة والشعب، لاسيما في الدول المستبدة والشمولية، نظرا لأن السلطة تبذل قصارى جهدها في سبيل الانفراد بالنفوذ والثروة وفرض الإكراه المادي والمعنوي، والتخصيص السلطوي للقيم، بينما الشعب يكافح من أجل نيل حريته وتحصيل حقوقه وأولها المشاركة في صناعة القرار. أما على المستوى الدولي فإن الدول تتصارع على الحدود والثروات الطبيعية والبشرية، ومصادر الهيمنة وأدوات النفوذ.

وهناك عوامل اقتصادية، حيث يتصارع الناس على الموارد التي لا تكفي لإشباع الحاجات، نظرا للتظالم الاجتماعي والدولي، إما في صراع طبقي داخل الدول، وإما صراع عابر للحدود والسدود بين الدول الغنية ونظيرتها الفقيرة، أو بين الشمال والجنوب. ورغم الجسور الواصلة بين الطرفين بحثا عن تكامل نسبي أو تخفيفا من غلواء الصراع، خصوصا في ما يتعلق بالنزعة الاستعمارية، فإن الصراع، ناعما كان أم خشنا، هو الذي يهيمن على الكثير من التفاعلات الدولية. ومع اتجاه بعض الوحدات التي تشكل النظم الإقليمية إلى الاتحاد في كيانات جامعة، ومنظمات قارية أو جغرافية معينة، فإن الأفكار حول الصراع لاتزال تشكل جانبا بارزا من اهتمامات العديد من المنظرين والكتّاب والفلاسفة والباحثين بدليل ما كتبه الباحث الأميركي صمويل هانتنغتون حول صراع الحضارات.

وينطوي الدفع في بنيته ومقصده على التوظيف الإيجابي لـ«الطاقة الغضبية»، التي لا تخلو منها نفس بشرية ولا حالة إنسانية ولا تفاعل جمعي، ضيق أو واسع. فهذه الطاقة يمكن أن تكون معول هدم، وعامل تدمير وإهلاك، ويمكن، بل يجب، أن تتحول إلى فعل خلاق وخيّر، يقوم على الدفع في اتجاه الصواب والإخلاص معا، بما يعزز القدرة على التصدي للغزاة الطامعين، ويقوي الشوكة ضد الحكام المستبدين، ويساهم في مقاومة الأفكار والعادات والتقاليد التي تشد إلى الوراء، ويساعد الإنسان على كبح شرور نفسه، والتغلب على أهوائه.

وهناك نوعان من «الدفع» ليس بينهما تعارض، والاكتفاء بأحدهما لا يغني عن الآخر، والتمسك بهما معا ضروري لقطف كل ثمار الدفع وحصد ما زُرع في سبيل تحصيله والإبقاء عليه: الأول هو الدفع المادي، الذي يعني امتلاك الجماعة أو الدولة القدرات المادية التي تؤهلها لردع أعدائها أو إجبارهم على التراجع حين يهاجمونها. وقد أسهبت مدرسة الواقعية السياسية في تحديد ملامح هذا التصور، لاسيما ما أنتجه هانز مورجنثاو، حيث حصرت قوة الدولة في قدراتها الاقتصادية، طبيعية وبشرية، ومساحتها وموقعها الجغرافي، وإمكاناتها العسكرية، عددا وعدة، ومهارة القيادة، ومستوى الدبلوماسيين وكفاءتهم، ونوعية السكان من حيث حجمهم ومستوى تعليمهم وتدريبهم وانسجامهم.

وهذه المدرسة لها جذور عميقة في التاريخ الإنساني، وهي تعلي من شأن المصلحة والتعقل، وتبدأ بالإغريق الأقدمين حيث كتاب المؤرخ توسيديد الذي وسمه بـ«تاريخ الحروب البيلوبونيزية»، وتمتد إلى الزمن الحديث حيث كتاب «الأمير» لميكافيللي وكتاب «التنين» لتوماس هوبز. وبلغت الواقعية ذروتها كنظرية سياسية أو مقترحات حول الفرد والدولة بعد عام 1940، لاسيما في العالم الأنجلو أميركي، لأنها حازت قدرة على تفسير العديد من الظواهر التي تبلورت خلال الحرب الباردة.

وجاءت المدرستان السلوكية والاجتماعية لتقوضا الكثير من مقولات الواقعية ومناهجها واقتراباتها، لكن هذه المدرسة لم تلبث أن عادت في ثمانينيات القرن العشرين مرتدية ثوبا مختلفا، وأخذت مصطلح «الواقعية الجديدة»، وظلت محتفظة بقدرتها على الإقناع، وحاجة علماء السياسة إلى مقولاتها في تفسير الوقائع والأحداث، وهذا يدل بشكل قاطع على تأصل النزوع إلى القوة في سلوكيات الأفراد والدول، وتواصل الركائز التي يعتمد عليها هذا النزوع، وهذا كله يُفهمنها حكمة الآيتين اللتين تتحدثان عن «الدفع» والآية الثالثة التي تطلب إعداد القوة لردع أعداء الله، وأعداء الخير والنور والصواب. والنوع الثاني من الدفع يتعلق بالجانبين المعنوي والرمزي، حيث يكون للكلمة قوتها وسلطانها، ولهذا جعل الإسلام أعظم درجات الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، بل إن الكلمة الطيبة في حد ذاتها تنطوي على قوة متجددة وتأثير لا ينتهي، وهو ما تبلغه بنا الآية الكريمة: «ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها».

ويحفل تاريخ الإنسانية بحالات لا تعد ولا تحصى استخدم فيها فلاسفة ومفكرون وكتاب وعلماء وفقهاء ورجال دين كلماتهم في دفع الضرر وجلب المنفعة، وإعلاء الحق والحط من الباطل.

* كاتب وباحث مصري