سيناريوهان لليمن
خرج اليمن من زمن القبيلة متعثراً في اختلالاته المستديمة، لكنه لم يدخل بعد عصر الدولة؛ فأقام مراوحاً بين أعباء تقليدية ذهب خيرها وبقي شرها من جهة، واستحقاقات حداثة لم يف بتكاليفها وشروطها من جهة أخرى، فيما ينهشه الفقر والفساد والقبيح من العادات وتربص البعض من النافذين في الإقليم وخارجه. اليمن على عكس غيره من البلدان لا يطرح احتمالات عديدة تتفاوت في درجات الإيجابية والسلبية، لكنه، متفرداً، يطرح سيناريوهين اثنين لا ثالث لهما: طاقة نمو وتقدم قوامها كتلة بشرية شابة طالعة للعمل والحياة، أو طاقة شر ودمار قوامها كتلة بشرية شابة طالعة لليأس والموت والخراب. أدرك المجتمع الدولي الإشكال الذي يطرحه اليمن جيداً، فراح يتسابق على تزويده بالمعونات وإقامة برامج التنمية والتطوير، لكن البيروقراطية المتحجرة والفساد المتمكن تحالفا مع عدم الاستقرار وغياب الوعي الشعبي، ليبددا أثر الكثير من تلك المعونات والبرامج.ولم تستطع الدولة أن تفرض مشروعها التنموي الملزم والناجع، كما لم تستطع أن تبسط هيمنتها على انفلاتات القبيلة، أو تنظم وجودها وتأثيرها في سياق المجتمع بعد التقليدي. وفي الوقت ذاته، كانت عوامل التطرف تجد الفرص اللازمة كلها والبيئة المثلى للنمو والازدهار؛ مستفيدة من الفقر، وسوء توزيع الموارد، والفساد، والتهميش الاجتماعي، والفهم المغلوط والقاصر للدين، وأصابع الجيران والقوى الإقليمية والدولية النافذة، وأحلام «القاعدة» وغيرها من تنظيمات «الجهاد»، وخواء السلطة وضعفها.
23 مليون نسمة يعيشون في اليمن، بنسبة أمية تتخطى الـ50 في المئة، وتحت أعباء تضخم يناهز الـ 12.5 في المئة، ومعدل بطالة يبلغ 35 في المئة، ليرزخ نحو 45 في المئة تحت خط الفقر، من دون أمل واضح في تبدل سريع للظروف؛ إذ يزيد عدد السكان بمعدل 3.46 في المئة، بينما لا تتعدى نسبة النمو الاقتصادي 3.1 في المئة. وفيما عدا أن اليمن بات يصدر نحو 320 ألف برميل نفط يومياً، وأن أسعار النفط حققت ارتفاعات قياسية على مدى العامين الفائتين، لكان وضع الدولة صعباً بشكل لا يمكن احتماله.من بين الـ23 مليون نسمة الذين يشكلون إجمالي السكان ستجد أن 46.2 في المئة تحت سن الرابعة عشرة؛ فمع متوسط عمر متوقع لا يتعدى الستين عند الميلاد بفعل تدني الخدمات الصحية وانتشار الأمراض، ومع نسبة مواليد عالية على خلفية تراجع الوعي الاجتماعي والصحي وسيادة المفاهيم الدينية المغلوطة، يتحول المجتمع إلى أغلبية واسعة يافعة شابة، تنتظر الكثير من فرص التعلم والعمل، فيما تضن الموارد المحدودة والإدارة غير الرشيدة بذلك، فتتحول تلك الأغلبية الكاسحة إلى فرص للانحراف والإرهاب الأسود.منذ الهجمات على سفارتي الولايات المتحدة في تنزانيا وكينيا في أغسطس 1998، لم تشهد سفارات الولايات المتحدة في العالم هجمات واسعة ومؤثرة رغم استهدافها من قوى عديدة؛ ذلك أن الاحتياطات الأمنية الشديدة حالت دون أي هجمات ذات تأثير واضح. ومن يتسنى له زيارة اليمن ومشاهدة التحصينات والحواجز التي تحيط بالسفارة الأميركية في صنعاء يعرف أن الإقدام على استهداف السفارة لا يأتي إلا من يائس أو شديد المراس، وكلا الاحتمالين مرعب، لأن تلك السفارة تحديداً استهدفت بأربع هجمات على مدى السنوات القليلة الماضية.منذ الهجمة على المدمرة الأميركية «يو إس إس كول» في أكتوبر من عام 2000، واليمن يشهد هجمات دورية على المصالح الغربية. ورغم أن السلطات تحاول أن تحد من احتمالات الاستهداف بهجمات استباقية وأنشطة وقائية، كتلك التي وقعت في «تريم» في أغسطس الماضي، فإنه يبدو أن «الطيف الجهادي» و«ماكينة التفجيرات» أوسع وأكثر فاعلية من التقديرات ومن محاولات لجمها. العملية ضد السفارة الأميركية في الأسبوع الماضي لم تكن تقصد قتل الأميركيين رغم قوتها وكثافة نيرانها وتنوع التكنيكات التي استخدمتها، لكنها كانت تستهدف ما هو أبعد من ذلك: البرهنة على عدم قدرة النظام على إسكات «العمل الجهادي»، والضغط عليه للحصول على مكاسب داخلية تتعلق بالحرية في الحركة والعمل، ولتكريس نفوذ «القاعدة»، وإرسال رسائل تهديد- وربما ابتزاز- للمملكة المتحدة والسعودية والإمارات العربية المتحدة.يحلو لبعض معارضي الرئيس اليمني اتهامه بتدبير بعض الحوادث الإرهابية من حين لآخر «ليبتز الغرب وبعض الجيران ويقنع الجميع بضرورة التحالف معه ومساعدته لمواجهة الإرهاب»، بل إن ثمة من يعتبر أن تمرد الحوثيين في صعدة «تدبير رئاسي» الغرض منه «تحقيق مصالح إقليمية ومحلية لنظام الرئيس علي عبدالله صالح». والواقع أن هذا التحليل لن يصمد كثيراً، ليس لأن الرئيس يعوزه الدهاء اللازم لتدبير تلك الأمور، ولا لأنها لا تحقق النتائج التي يتخيلها القائلون بهذا التحليل، ولكن لأن الحقائق على الأرض في اليمن تنفي ذلك، وتشير بوضوح إلى انفلات خيوط اللعبة من أيدي اللاعبين الرئيسيين وتوزع قدرة الفعل على فاعليات ومصالح شتى.اليمن اليوم ينطوي على احتمالات تصدير الشر والإرهاب وعدم الاستقرار لجيرانه ومناطق أخرى من العالم، إن هو تُرك لمواجهة مصيره وحده، فهل تعي القوى الفاعلة والمتأثرة بما يحدث فيه ذلك؟* كاتب مصري