مذكرات فؤاد بطرس حضرت الاتفاق الثلاثي ولم أكن موافقاً في عهد الهراوي انهارت مفاهيم الدولة السيدة قلت للحريري: السقف غير عال وأنا لا أستطيع الانحناء عارضت بشدة حصول الحريري على امتياز باستثمار مرفأ صيدا وأجبرت المجلس على رفضه انسحب الأميركيون والقوات المتعددة الجنسية... فغرق لبنان في عبثية وفوضى وضياع الحلقة الخامسة عشرة والأخيرة

نشر في 31-08-2008 | 00:00
آخر تحديث 31-08-2008 | 00:00
No Image Caption
الخروج من القصر

خرجت من قصر بسترس، مقر وزارة الخارجية، للمرة الأخيرة في تشرين الأول (أكتوبر) 1982، ولم أعد إليه قط. تركتً ورائي ذكريات أعوام ستة مليئة بالأحداث المأسوية بعد فترة وجيزة من الأمل في إمكانية نجاح المشروع الانقاذي الذي قاده بصدق وشجاعة ونزاهة صديقي الكبير الرئيس الياس سركيس. وفي محصلة سريعة –وللتاريخ أن يحكم لنا أو علينا- سلّمنا وديعة الحكم للرئيس أمين الجميل في ظروف أفضل بكثير من تلك التي كانت سائدة يوم آلت إلى الرئيس سركيس، على الرغم أن الاحتلال الإسرائيلي كان جاثماً على مشارف قصر بعبدا وعلى العديد من المناطق اللبنانية: فالسلطة المركزية بأجهزتها الأمنية والإدارية موحدة، والعامل الفلسطيني الضاغط انكفأ إلى غير رجعة، والتذابح بين اللبنانيين في كل المناطق كان قد توقف. وهذا كله لم يكن متوافراً للرئيس سركيس الذي لم يتسلم مكتباً صالحاً للعمل في القصر الجمهوري في بداية عهده.

بعد انقضاء كل هذه السنوات، ربع قرن بالتمام، واعتراف القاصي والداني بأهمية ما تمت المحافظة عليه، وبما أُنجز على صعيد إعادة وصل ما انقطع في البلاد، خلال الأعوام الستة، على المستويات كافة، خصوصا على مستوى الدبلوماسية اللبنانية التي عُنيت بها، لابد لي من الإقرار بأن شخصية الرئيس الراحل الياس سركيس وأسلوبه ومزاجه هي ما وفر لزملائي ولي إمكانية القيام بواجباتنا على النحو المفروض. وأود أن أستعيد في خاتمة مذكراتي ما كتبته عن الرئيس سركيس، في صحيفة «لوريان لوجور»، في التاسع والعشرين من حزيران (يونيو) 1985 بمناسبة رحيله:

(...) «هذا الرجل الذي نجح بفضل جهوده الشخصية، كان صاحب وعي سياسي ومهني لا يتزعزع، وقوة إرادة تسترها رباطة جأش تامة، وهدوء لا تشوبه شائبة. كان جدياً في غير مأسوية، ومنصفاً دون تعقيد، ومتواضعاً ومتجرداً، ومترفعاً، فاستطاع أن يجعل من إنكار الذات عقيدة».

تحذيرات حبيب

عدت إلى مزاولة مهنة المحاماة وأعيد استنهاض مكتبي الذي تأثر كثيراً بنتيجة انقطاعي عنه، مدة ست سنوات، ورفضي أن يتولى قضايا لها اتصال بالشأن العام وإدارات الدولة. واستفدت من فترة الهدوء النسبي التي سادت بين تشرين الأول (نوفمبر) 1982 وصيف 1983 لأعيد لمكتبي مكانته.

خرجت من السياسة غير أن السياسة لم تخرج مني. كان خروجي منها هذه المرة مختلفاً عن سنة 1970. ففي تلك السنة انكفأت عن الحياة السياسية ليقتصر تماسي بها على اجتماعات خاصة، ولقاءات نقاش مع بعض الزملاء من جماعة النهج أو الشهابية حول سياسة الرئيس سليمان فرنجية، والتساؤل عن إمكانية عودتنا كفريق إلى واجهة الحياة السياسية اللبنانية. لكن منذ خريف 1982، اختلف الوضع. لم يعد تعاطي أهل السياسة معي على أساس أني من الفريق الشهابي، بل صرت شيئاً فشيئاً أتحول إلى رجل سياسي حيادي يتواصل معه الجميع بغية أخذ الرأي أو المشورة أو ادعاء أخذها مني في سبيل التسويق لفكرة أو مبادرة سياسية ما، لاسيما أن الشهابية أصبحت تدريجياً ترتدي في نظر الرأي العام هذا الطابع.

بقيت أتابع عن كثب ما يجري بحكم اتصالاتي المحلية والإقليمية والدولية وعلاقاتي مع كبار المسؤولين اللبنانيين، وخصوصا الرئيسين أمين الجميل وشفيق الوزان اللذين كنت أزورهما من وقت الى آخر برغبة مني أو تلبية لدعوة من كل منهما.

على المستوى الدبلوماسي، تكرّس نوع من عرف يقضي بأن يزورني معظم سفراء الدول المعتمدين في لبنان عند وصولهم إلى العاصمة اللبنانية، كما أن كثيرين من الدبلوماسيين المكلفين بمبادرات متعلقة بالوضع اللبناني كانوا يحرصون على الاجتماع بي في إطار اجتماعاتهم مع المسؤولين الرسميين اللبنانيين.

أذكر من لقاءاتي مع السفير فيليب حبيب حين كان يزورني في منزلي في بيروت في عهد الرئيس الجميل أنه لم يكن مرتاحاً دائماً لأسلوب تعاطي رئيس الجمهورية مع الأحداث، ويحذر من مغبة الاستمرار في الاتجاه الذي كان العهد سائراً فيه، خصوصاً إبان البحث في مرحلة التحضير لاتفاق 17 أيار (مايو). وفي الواقع، لم تكذّب الأحداث التي شهدها النصف الثاني من عام 1983 مخاوف فيليب حبيب، وربما كانت أسوأ مما توقع.

العبثية والفوضى

في تقديري، لقد بالغ الرئيس أمين الجميل في الاعتماد على الوعود الأميركية له بالوقوف إلى جانب لبنان في المعركة الدبلوماسية الشاقة التي كان يخوضها في مواجهة إسرائيل، لحملها على الانسحاب من لبنان، وفي مواجهة النفوذ السوري الذي كان يحاول العودة بأي ثمن إلى قلب المعادلة اللبنانية بعدما أخرجه الجيش الإسرائيلي منها في حزيران (يونيو) 1982. وأذكر حديثاً دار بيني وبين الرئيس أمين الجميل إثر وقوع الانفجار الذي أودى بحياة جنود المارينز في تشرين أول (أكتوبر) 1983 حول انعكاسات هذا الانفجار على السياسة الأميركية تجاه لبنان. وأعرب الرئيس الجميل عن اعتقاده بأنه سوف يدفع واشنطن إلى تعزيز القوات الأميركية في لبنان. فقلت له:

- إنني أميل إلى الاعتقاد بأنهم سوف ينسحبون.

- أنت تقول ذلك لأنك لا تحب الأميركيين، لقد قال لي الرئيس رونالد ريغان إنهم مستمرون في دعمهم للبنان وإنهم لا يملكون ناقل سرعة للوراء في سيارتهم. لن يتراجعوا.

- أنا أتعاطى السياسة بعقلي وليس بقلبي، وإذا كانت قضية العلاقة مع الأميركيين ثقافية فأنا قريب منهم، لأن ثقافتي غربية، أما إذا كانت سياسية فأنا أحكم عقلي وليس عاطفتي وبعد اطلاعي على أمور عدة أرى أن الأميركيين غير مستعدين لتعزيز وجودهم في لبنان وسترى.

بعد انسحاب الأميركيين وسائر القوات المتعددة الجنسيات وتزامُن ذلك مع موجة انهيار السلطة المركزية إثر حرب الجبل في مطلع أيلول (سبتمبر) 1983 وانتفاضة السادس من شباط (فبراير) 1984 التي جعلت سلطة الدولة مقتصرة على القصر الجمهوري وبعض أرجاء المنطقة الشرقية، غرقت البلاد في نوع من العبثية والفوضى والضياع، لم تنجح مؤتمرات جنيف ولوزان ولا حكومة الوحدة الوطنية برئاسة رشيد كرامي في إنقاذها منه.

في تلك المرحلة، برز توجه لدى بعض أركان حزب الكتائب والقوات اللبنانية لفتح علاقة مباشرة مع سورية، وتحقيق تقارب معها، أفضى إلى ما عُرف في حينه بالاتفاق الثلاثي، نسبة إلى الأطراف الثلاثة التي تفاوضت عليه ووقعته: القوات اللبنانية وحركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي. وقد أتت خطوة الكتائب والقوات الانفتاحية على سورية بعد انتفاضة داخلهما ضد الرئيس الجميل في آذار (مارس) 1985 اعتراضاً على خلوات بكفيا والاجتماعات التي عقدت مع نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام. وبدا لي آنذاك أن الرئيس الجميل اعتبر أن اتفاق 17 أيار (مايو) خطأ كبير وأنه مضطر إلى أن يستبدله بشيء يعاكسه تماماً حتى يغطي المسألة فتُنسى من سورية والرأي العام اللبناني المتحالف معها.

قصف سوري

قبل اتضاح معالم الاتفاق، كان ميشال سماحة وميشال المر، كل على حدة، يتفاوضان مع السوريين، وكان سماحة يطلعني على الأفكار الرئيسية التي كان يجري التداول فيها ويطلب رأيي بها. فكانت لي ملاحظات بدائية عدة على ما نقله إليّ، إلى أن أتاني رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية إيلي حبيقة في أحد أيام تشرين الثاني (نوفمبر) بمشروع نص. فقرأته واعترضت على ثلاثة أرباع ما جاء فيه، وقلت له إن على السوريين أن يتصلوا بالرئيس أمين الجميل ويطلعوه بالتفصيل على ما يجري الإعداد له، وأن يتواصلوا مع الرئيس سليمان فرنجية الذي كانت تربطهم به علاقة صداقة. فبحسب انطباع تكون لديّ في حينه، لم يكن الرئيس فرنجية ليوافق على الاتفاق الثلاثي وليرتاح للاتجاه الذي يسير فيه حبيقة. وعندما أبديت عدم موافقتي على المشروع، قال لي حبيقة إن هذه العملية تستلزم أشهراً عدة، ولايزال أمامنا متسع من الوقت لنتكلم فيها، ونعدل ما يُفترض تعديله. وقد ارتأيت في ذلك الحين أنه من الأفضل أن أواكب العملية الحوارية الدائرة بين القوات اللبنانية وسورية كي أكون على بينة مما يجري، وأفيد هذا الفريق بخبرتي مع القيادة السورية التي لم يكن يعرفها بالقدر الكافي.

قبل توقيع الاتفاق الثلاثي بأيام قليلة، أتى ميشال سماحة على عجل، وقال لي: «بعد يومين هناك اجتماع للموافقة على الاتفاق الثلاثي في دمشق، والسوريون، وبالطبع نحن، مهتمون جداً بأن تكون حاضراً». فأجبته بأنني غير موافق على هذا الاتفاق، عندها قال لي: «حتى لو لم توافق فإن حضورك مهم». وقد أشعرني فريق القوات اللبنانية المستعجل وغير الراغب في التصلب أمام مسائل مبدئية لا يجوز التهاون فيها مثل صلاحيات رئاسة الجمهورية ووضع الجيش السوري بأنه يعوّل على المجلس النيابي، حيث سيمر الاتفاق قبل أن يصبح قابلاً للتنفيذ، لكي يجري التعديلات اللازمة. في أية حال، هذا فحوى ما قاله رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية إيلي حبيقة في اجتماع الفاعليات المسيحية في بكركي عشية الاتفاق حين قال: «لنوقع هذا الاتفاق الذي سينهي الحرب وبعد ذلك أسقطوه في مجلس النواب إذا ارتأيتم أن ذلك ضرورياً».

ولابد من الإشارة، إلى أن فترة إعداد الاتفاق الثلاثي تزامنت مع قصف مدفعي سوري كان يستهدف المنطقة الشرقية في شكل عنيف. وربما كان القصد منه زيادة التهويل على المسيحيين كي لا يعارضوا هذا الاتفاق بشدة.

حبر على ورق

في اجتماع بكركي الذي ترأسه المدبر الرسولي المطران إبراهيم الحلو، مساء الجمعة في السابع والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) 1985، ساد جو من التوتر والانزعاج والحذر بين المجتمعين رغم أن المداخلات تعمدت النبرة الهادئة لعلمها أن الوضع خطير جداً وينذر بحرب بين المسيحيين. ولم يفض الاجتماع الذي دام ساعات إلى موقف موحد بل كان مجرد مناسبة لكي يستعرض كلُ من الطرفين القواتيين المختلفين وجهة نظره من الاتفاق أمام الفاعليات المسيحية. في طريق العودة من بكركي، رافقني في السيارة الوزيران السابقان ميشال إده ورينيه معوض، فدعوتهما إلى تناول العشاء في منزلي لمتابعة الكلام في الموضوع. ثم اتصلت بإيلي حبيقة وطلبت منه أن يوافينا، وعندما أتى قلت له: «لست موافقاً على الذهاب إلى دمشق غداً الغ الزيارة أو نؤجلها». فأجابني: «لا أستطيع أن أؤجلها لأن من شأن ذلك أن يثير مشكلة كبيرة، احضر الاجتماع وخذ الموقف الذي تريد، المهم أن تحضر».

صباح اليوم التالي، السبت في الثامن والعشرين من كانون الأول (ديسمبر)، اتصل بي كريم بقرادوني وسألني عن ذهابي إلى دمشق، فقلت له إنني سأذهب وأسجل اعتراضي على المسألتين اللتين كنت توافقت معه على كونهما دقيقتين ولا يجوز السكوت عنهما. عندئذ قال لي: «إذاً، سأذهب أنا أيضاً إلى دمشق، سأحاول مع خدام لنرى ما إذا كان لايزال ثمة مجال لإجراء تعديل في الاتفاق». وقرابة الظهر، كانت سيارتي التاسعة في الموكب المسيحي المؤلف من عشر سيارات المتوجه إلى دمشق.

وصلنا بعد الظهر إلى العاصمة السورية، حيث عقدنا اجتماعاً مع نائب الرئيس السوري عبدالحليم ضم كل الفريق المسيحي اللبناني الحاضر في دمشق ومن بينهم النائبان الياس الهراوي، ومخايل الضاهر. استهل خدام الاجتماع بعدما حرص على إجلاسي إلى جانبه، بالترحيب بنا وبالكلام عن أهمية ما تم التوصل إليه في وثيقة الاتفاق الثلاثي. وعندما انتهى، لم يقل أحد شيئاً، فانتظرت بضع ثوان ثم قلت له: «يا أبا جمال أنا أشكرك وأهنئك على هذا العرض وخصوصاً على صراحتك، لو كنت مكانك لربما اتخذت الموقف نفسه لكنني في موقع آخر». هنا سألني خدام عن رأيي في الاتفاق وعما جناه المسيحيون من الحرب، فأجبته: «لم يجنوا من الحرب شيئاً سوى الخراب لكن لا يمكنك إقناعهم ببنود هذا الاتفاق الذي لن يتمكن إيلي حبيقة من حمله وحده. لذلك لابد من إخضاعه لمزيد من الدرس والتشاور مع الرئيسين أمين الجميل وسليمان فرنجية».

لم يتكلم غيري في هذا الاجتماع باستثناء بعض عبارات المجاملة الشكلية، وقد استوقفني ذلك. لقد ساد بين الحاضرين شعور بأن ما كتب قد كتب ولا مجال لتغيير حرف واحد، وبأن أكثر ما يمكن أن يطمح إليه المرء هو محاولة إجراء تعديل على الاتفاق لدى وضعه على السكة العملية للتطبيق خصوصاً عندما يصل إلى مجلس النواب. رفع خدام الجلسة، وتوجه الحاضرون نحو القاعة التي شهدت التوقيع. وعندما دخلت إليها، وجدت أن معظم الحاضرين قد جلسوا إلى الطاولة فبقيت واقفاً. فدعيت إلى الجلوس بجانب الموقعين لكنني اعتذرت. والتفت فوجدت رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط واقفاً إلى جانبي. وأذكر أنني سمعته يقول: «هذا (الاتفاق) سينفذه تيمور» بما معناه أنه سيبقى حبراً على ورق، ولن يجد طريقه إلى التنفيذ.

نهاية مأساوية

في تلك الفترة أيضاً، انتخب النائب رينيه معوض رئيساً للجمهورية واغتيل بعد ثمانية عشر يوماً في يوم عيد الاستقلال سنة 1989. ولمست أنه في تلك الفترة يحاول تذليل عقد كثيرة والجمع بين المتناقضات: فكان يريد أن يعين حكومة متوازنة ترضي ضميره، وفي الوقت نفسه ألا يصطدم بالسوريين. هنا كانت الصعوبة الكبرى والمشكلة التي كان يبحث عن حل لها. وعلمت في ما بعد أنه أسر للوزير السابق ميشال إده بأنه سوف يسند إليّ وزارة الخارجية في الحكومة التي كان يزمع تأليفها. وعندما لفت صديقنا المشترك نظره إلى أن السوريين قد لا يحبذون توزيري أجابه بأنه قادر على إقناع الرئيس حافظ الأسد بذلك.

أذكر جيداً أن الرئيس رينيه معوض قال لي ذات ليلة: «بعد غد عيد الاستقلال، وهناك حفل استقبال في الصنائع هل ستأتي؟» فأجبته بأني لا أحب كثيراً المناسبات العامة خصوصاً في مثل هذه الأجواء. عندها أردف قائلاً: «إذا جئت إلى هنا نذهب سويا». وكانت النهاية المأسوية للرئيس الذي لم يحكم لبنان سوى ثمانية عشر يوماً.

خلف معوض الرئيس الياس الهراوي في الظروف المعروفة والإصرار الدولي والعربي على إجراء انتخابات رئاسية أياً كان الثمن. وفي كل حال، فإن الظروف التي واكبت انتخاب الهراوي رافقت عهده، الممدد ثلاث سنوات، حتى الدقيقة الأخيرة. في هذه الولاية الرئاسية، انهارت كل مفاهيم الدولة السيدة وأحكم السوريون قبضتهم على الحكم المركزي والإدارة العامة وسائر مرافق الدولة. وإذا كان التصرف السوري والصمت الدولي عنه مدانين، فإنه لا يجوز، في المقابل، إغفال أخطاء أغلبية الرسميين اللبنانيين في تعاملهم مع رؤساء المخابرات السورية لأنهم كانوا يراجعونهم لالتماس مطالب شخصية لهم ولأتباعهم وجماعاتهم مما جعلهم في غالب الأحيان لا يحافظون كفاية على كرامة بلدهم.

زاملت الرئيس الهراوي في وزارة الرئيس شفيق الوزان وربطتني به علاقة حسنة. وكنت، كما مع من سبقه وكما لاأزال حتى الآن، على استعداد لمساعدة كل مسؤول وإبداء المشورة له إذا طلبها. عندما استقر الرئيس الهراوي في المبنى الذي عرف بالمقر الرئاسي المؤقت في الرملة البيضاء، قمت بزيارة مجاملة له. وأثناء الحديث أخذ يستذكر أيام الحكومة التي ضمتنا في عهد الرئيس الياس سركيس، وقال: «لم يكن يهمه كيف يصوّت سائر الوزراء بل ما هو رأي فؤاد بطرس».

في هذه المرحلة التي فقد لبنان الكثير من حضوره ودوره من جراء الوجود السوري وأداء الطبقة السياسية اللبنانية الخاضعة لدمشق، نشأت قواعد جديدة للحياة السياسية في لبنان لم أكن موافقاً عليها، لذلك أحجمت عن التعاطي المباشر في السياسة وعن إطلاق المواقف والتصريحات التي تجعلني عضواً في النادي السياسي اللبناني القابل بشروط اللعبة كما وضعتها القيادة السورية والممارسة اللبنانية.

أنا والحريري

انصرفت إلى أعمال المحاماة والكتابة من وقت الى آخر في الصحف اليومية ومكتفياً بالإطلالة مرتين أو ثلاث في السنة في مقابلات تلفزيونية لإبداء الرأي وإشراك اللبنانيين في وجهة نظري مما كان يجري في لبنان وانعكاسات السياسات الدولية عليه. وقد قلت للرئيس الراحل رفيق الحريري عندما طلب إليّ يوماً القبول بالترشح للانتخابات النيابية على لائحته سنة 1996: «المشكلة أن سقف السياسة في لبنان غير عال وأنا أعاني ألماً في ظهري يمنعني من الانحناء والتعايش مع هذا السقف. فإذا أصبحت نائباً وأنت رئيس حكومة فلن أعطيك الثقة، ليس لأن لا ثقة لي فيك بل لأن تشكيلات حكوماتك وبرامجها سوف تُفرض عليك. وسأعطيك مثلاً آخر إذا أردتم القيام بأمر تريده سورية لا أوافق عليه فهل بإمكانك وأنت رئيس اللائحة التي انتخبت عليها أن تتحمل معارضتي؟».

المرة الأولى التي سمعت فيها باسم رفيق الحريري، كنت لاأزال وزيراً للدفاع وللخارجية في حكومة الرئيس سليم الحص، عندما رغب في الحصول على امتياز من أجل استثمار مرفأ صيدا. وقد اعترضت في مجلس الوزراء على إعطاء الامتياز بالتراضي لأي كان تمسكاً بالمبدأ القائل بوجوب استدراج العروض، ودرسها كلها قبل اختيار الأنسب للدولة من بينها. لم يرقه موقفي حينذاك، وبما أن أغلبية الوزراء عادت وساندتني، صرف رفيق الحريري النظر عن هذا الموضوع.

وتشاء الأيام أن التقيه بعد سنوات طويلة خلال مأدبة عشاء عند روبير دباس، وأن نتعارف شخصياً. ثم اجتمعت به في باريس قبل أن يصبح رئيس حكومة، وترسخت بيننا علاقة صداقة ومودة، أعتقد أنها كانت متبادلة، على رغم التباين المتكرر في الآراء ووجهات النظر، وفي تقدير الظروف واتخاذ المواقف المناسبة في شأنها خصوصا تلك المتعلقة بالدور السوري في لبنان وكيفية التعاطي معه ومع بعض أهل السياسة. وفي تقديري أن أهم ما تمكنت من التفاهم عليه مع الرئيس الحريري عملياً في حقل السياسة هو تكريس المناصفة الطائفية عرفاً في المجلس البلدي لمدينة بيروت.

الحياة والعدم

إني إذ أختم مذكراتي عند هذا الحد الزمني، ينتابني الأسى حيال الأحداث التي أعقبت هذا الحد وصولاً إلى الزمن الحاضر. فمنذ صدور القرار 1559، والمآسي والشدائد تتعاقب على بلدنا. وقد بلغت أوجها في اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري الذي كان عملاقاً في حقل السياسة والحكم في نظر مؤيديه ومعارضيه على السواء، على الرغم مما وُجهت له من انتقادات، إلى جانب محاولات واغتيالات سابقة ولاحقة تناولت نخبة من النواب وأهل السياسة والصحافيين البارزين الملتزمين القضايا الوطنية بجرأة وإيمان. كل ذلك تزامناً مع ما ترتّب على الممارسة السياسية في سائر اتجاهاتها من نتائج مأساوية كرست انقساماً حاداً يهدد الكيان والعيش المشترك ورسالة لبنان.

وإذا كنت قد حظّرت على نفسي الخوض تفصيلاً في المرحلة هذه لأنها خارجة عن إطار مذكراتي فلابد لي من إعلان بعض الحقائق التي زكّتها الأحداث المؤلمة التي نعيشها والتي لا يجوز تجاوزها والتغاضي عنها بمناسبة إصدار هذا المؤلف.

أزمتنا أزمة وطن وكيان وليست أزمة سياسية عادية أو حكومية لذا ينبغي معالجتها بالاستناد إلى مفاهيم ومقاييس تتصدى لجوهر الأزمة ولا لظواهرها.

إن مفهوم المواطنة ومرتكزاتها هو الذي يفرض ماهية المعالجة.

وفي هذه الخاتمة لا مجال لمزيد من التوسع لاسيما في ما ينبغي أن يتصف به أهل السياسة من مؤهلات وميزات وحكمة في سائر الحقول بما فيها الحقل الأخلاقي. ولعل المأساة التي عاناها لبنان تُشكل درساً للجميع فيحسنون التمييز بين حسنات ومساوئ الجمود والحركة وبين الصمود والتصدي، ويحسنون التصرف في ضوء الواقع، متذكرين قول الرئيس جون كيندي إن عدو الحقيقة والواقع هو الأسطورة أكثر مما هو الكذب. فيكفّون عن العيش في عالم الأسطورة مواجهين الواقع والحقيقة بشجاعة ودون مواربة متحصنين بحسن النية وبالإيمان بأن للقضايا والمصلحة الوطنية الأولوية حيال قضاياهم ومصلحتهم الخاصة.

باختصار، أصبح لبنان مهدداً في كيانه ووجوده وهويته وقدرته على أن يُشكّل وطناً بالمعنى الصحيح بالنظر إلى تعارض بل تناقض تصور أبنائه للدولة والوطن ووجهة نظرهم بالنسبة إلى الطائفية ودورها بحيث يصح أن يتساءل اللبنانيون- إلى أي فئة انتموا- والعالم أجمع: إلى أي مدى ثمة قابلية لأن يكون لبنان دولة ووطناً بالمعنى الصحيح والسليم. هذه هي المعضلة التي ينبغي مواجهتها والتصدي لها من دون مواربة وتكاذب وتحايل.

وعلى أمل أن نساعد الحياة على الانتصار على العدم، والإيجابية على السلبية، أختم مذكراتي.

back to top