Ad

إن قصة «صح» التي كتبها القاص الراحل «محمود طاهر لاشين» في عام 1924، تعد نموذجاً رائعا للقصة الحديثة، حتى بمقاييس أيامنا، حيث استنفدت الأجيال اللاحقة كل جهدها في التجريب، وبلغت بالقصة أقصى ما تستطيع من آفاق التطور.

العمل الأول لدى أي مبدع هو المعبر الأمثل عنه، وهو الأقرب إلى قلبه مهما مسح تعاقب الأيام الغبار المتراكم على صورته الطفولية، فبدا ضئيلا غضّاً أو غِرّاً ساذجا أو ضعيف البنية مثرم الأسنان.

إنه الابن الأول، وحسبه لموقعه هذا أن يستأثر بالقسط الأوفر من المحبة والحنان، ولو تكاثر أشقاؤه اللاحقون وفاقوه وسامة وعافية.

والعمل الأول للقاص الراحل «محمود طاهر لاشين» أحد أبرز رواد القصة المصرية والعربية هو واحد من هؤلاء الأبناء الأوائل المحفوفين من آبائهم بالمحبة الفائقة، لكن حسن حظه هذا قد أورده أسوأ المهالك، لا لشيء إلا لأن أباه كان رائداً في مجاله، الأمر الذي اقتضاه جهدا كبيرا في التأسيس والتجريب والإعادة والتعديل، لكي يضمن لقصصه «أبنائه» بلوغ الغاية المثلى من العافية والوسامة والنضج، والوصول بها إلى الكمال الفني المطلوب شكلا وموضوعا.

وإذا علمنا أن قصة لاشين كانت لا تستقر على الورق إلا بعد مخاضات كثيرة، تبدأ من اشتغاله عليها ذهنياً، ثم روايتها للعديد من أصدقائه الأدباء، ثم المضي بها تقليباً وتعديلاً وتشذيباً حتى مستودعها الأخير، فإننا سنعلم مقدار ما كابده من جهد في كتابة قصته الأولى «صح» حيث لم يكن أمامه أي نموذج عربي لقصة حديثة مكتملة الشروط كأختها الأوروبية التي سبقتها إلى التأسيس والاكتمال بعقود طويلة.

إن قصة «صح» التي كتبها لاشين في عام 1924، تعد نموذجاً رائعا للقصة الحديثة، حتى بمقاييس أيامنا، حيث استنفدت الأجيال اللاحقة كل جهدها في التجريب، وبلغت بالقصة أقصى ما تستطيع من آفاق التطور.

يحكي لاشين في «صح» قصة مدرس حساب رفيع الخلق، يموت شقيقه فيضطر إلى الاقتران بأرملته، ليكفل لها الكرامة والستر، وليكفل لولدها ما يستحق من الرعاية، ويبلغ الولد مبلغ الشباب ويدخل في سلك الموظفين بعد إتمامه الدراسة، لكنه يبقى مقيما مع عمه الذي أحاطه وأمه دوماً بالرعاية الحقة.

وحين تموت الزوجة، يخلو البيت ممن يقوم على شؤونهما، فيستأذن العم ابن أخيه، قبل أن يتزوج بامرأة ثانية، فلا يتردد الشاب في الموافقة.

وهنا تبدأ عقدة القصة، حيث تكون الزوجة الجديدة شابة، فيخفق قلبها بحب الفتى، ويخفق قلب الفتى بحبها، لكنهما يكبحان جماح نفسيهما، لأنهما برغم قوة المشاعر الفطرية، يحبان الرجل حباً جماً، ويعترفان بنبله وفضله، ويحترمانه إلى أبعد حد.

ولكي يقمع أي زلة محتملة، يقرر الفتى في النهاية أن يغادر المنزل، وحين يصارح عمه برغبته في السفر إلى بلد آخر لتغيير الجو، لا يقتنع الأخير بتلك الأسباب، ويحاول، فيما هو منهمك بتصحيح الدفاتر، أن يثنيه عن عزمه، طالباً منه أن يتريث ويفكر في الموضوع.

وينقلب الفتى إلى حجرته، فتهمس له الزوجة من وراء الباب شبه باكية، متوسلة إليه ألا يسافر، فيدخلها بسرعة، ليصارحها بأنه متعلق بها، وهو يعلم أنها متعلقة به أيضا، لكنه مستعد لمكابدة الأهوال، على أن يسيء إلى عمه صاحب الفضل عليه، فتعترف له بأنها تحترم زوجها كثيرا، ولا يمكن أن تقدم على اقتراف أي فعل يسيء إليه... لكن أمر المحبة ليس في يدها.

وفي تلك اللحظة، يقرع باب الحجرة، ويلوح العم وراء الباب.

كان العم وقد سمع كل شيء، يحاول جاهدا أن يعقل عواصف نفسه. وبعد إطراقة صمت طويلة محتدمة بالمشاعر المتضاربة، قال لهما إن الذنب ليس ذنبهما، وعليهما أن يأويا إلى فراشيهما، وفي الصباح سيكون لكل حادث حديث.

ويعود إلى تصحيح دفاتر الامتحانات، حانقا حائرا مثقلا بالأفكار السوداء، لكن صدمته ما تلبث، على مر الساعات، أن تفتر، وما يلبث الصفاء أن يعاود نفسه، فيقرر بعد تأمل طويل أن ما حدث ليس غريبا، ويقول في سره: «الشابة للشاب... وهذا هو قانون الفطرة».

ويتناول أول دفتر أمامه فيفتحه ويكتب تحت الإجابة بضربة حادة: (صح).

هكذا تنتهي القصة كما نشرت في مجلة «الفنون» عام 1924. لكن يبدو أن طاهر لاشين المولع بالتغيير والتعديل، قد أعاد التفكير بجدية في القصة، ورأى، بعد عام من نشرها، أنه قد تعسف في إجراء مثل تلك النهاية، وتمعن في شخصيات القصة فوجدها جميعا شخصيات بريئة لم تقترف إحداها جرماً يقتضي أن ينصب نفسه قاضيا قاسيا مبرم الأحكام، ليصدر الحكم سريعا وباترا لمصلحة إحداها على الأخرى.

قارئ لاشين يعرف أنه يحب جميع شخصيات قصصه، حتى الخاطئة والمجرمة منها، ويعاملها بحيادية نابعة من عطفه على ضعف الإنسان. فكيف يمكن لكاتب كهذا أن يقترف جريرة إبداء حكم قاطع في قضية جميع أطرافها أبرياء يواجهون قدراً لا حيلة لهم أمامه؟

يبدو أن مخاض تأنيب الضمير، قد أفلح بعد عام من نشر القصة في دفع لاشين إلى نقض الحكم، فإذا بالقصة نفسها تظهر منشورة مرة أخرى في مجلة «الفجر» عام 1925 لكن بزيادة سطرين على أولها، وبحذف نهايتها تماما... ليكون عنوانها «قصة بلا نهاية»!

القصة بصورتها الجديدة، تكشف عن حدة موهبة لاشين، وعظيم مهارته في التجريب، وشدة براعته في توجيه الصياغة والموضوع وجهة أخرى، برغم عدم اختلاف النص الثاني عن الأول إلا بلمسات طفيفة.

ففي القصة التي لم تنته يكون الراوي قد اشترى طعاما في قرطاس، وبعدما استكمل التهامه، فرَدَ القرطاس فإذا هو ورقة من مجلة قديمة طبعت عليها القصة نفسها، فقرأها كما هي، لكن عندما يصل إلى مشهد مواجهة العم للشابين تكون السطور في الورقة قد انتهت... وربما كانت تكملتها موجودة في ورقة أخرى من المجلة نفسها، وقد تحولت بدورها لدى البائع إلى قرطاس آخر بيع فيه الطعام إلى زبون آخر.

أيُّ براعة؟!

لقد تخلص من النهاية تماما بهذه الحيلة الفنية الجميلة، ونأى بنفسه عن التدخل في أقدار شخصياته. لكن المشكلة أن هذه البراعة لا يظهر سحرها إلا بقراءة النصين معا...

ولأن النص الأول ينبغي أن يختفي بعد أن جرى تعديله، ولأن النص الثاني هو وثيقة التعديل التي لا تملك وحدها الإفصاح عن البراعة الفنية التي أبداها الكاتب عند التعديل، فقد كتب على النصين معا أن يبقيا إلى اليوم مبعدين عن مجموعات لاشين القصصية الثلاث، ومركونين في ذمة أرشيف الأعمال غير المنشور في كتب.

ولم يكن ممكنا للقارئ أن يقع على هذا اللون من البراعة الفنية ويتذوق جماله وسحره، لولا همة الناقد المرموق الدكتور صبري حافظ، الذي بذل جهدا ملحوظا ومشكورا في جمع أعمال لاشين كاملة، ضمن سلسلة (رواد الفن القصصي) وأضاف إلى فضله هذا، فضل تزيينها بثاقب فكره تعريفاً ونقداً.

* شاعر عراقي