في بدايتي كنت أتواجه مع هذا السؤال: لمن أكتب؟ وهل في بالي هدف معين تدور حوله كتاباتي؟ وكنت أشعر أنني أكتب للوصول إلى هذه المتعة الخالصة المصفاة من اللعبة الفنية التي مارست فيها عملية الخلق الفني، هذا اللعب الذي يمنح الكاتب بداية المتعة والذهاب إلى أقصاها، أي الغياب الكامل في نشوة الفرح المتحصل من المنتج الذي تم انجازه.
كنت أتواجه أيضا مع استنكار فكرة الكتابة بهدف الوصول إلى المتعة الفنية بحد ذاتها، من دون أن يكون من ورائها غاية مقصودة كأن تكون وطنية أو تربوية أو إصلاحية أو اجتماعية، أو سياسية... إلخ. وأنا لا أنكر هذا الأمر وأعرف مدى أهميته، ولكن بند المتعة في رأيي يجب أن يأتي على رأس الأولويات الفنية، متعة الكاتب وهو يكتب مادته، ومتعة المتلقي لهذه المادة المكتوبة. لأن الكاتب هو نتاج مجتمعه، فهو ومن دون وعي منه محمل حتى النخاع بكل أوجاع مجتمعه وأفراحه وهمومه، وهي محقونة في لا وعيه، وحتما ستولد ذاتها في كتاباته من دون إذن منه... وعلى هذا يكون هدف الكتابة النبيل متحققا، شئنا أم أبينا، حتى إن لم يتحقق فهو ليس شرطا للكتابة، ولذا أكرر قولي بأن المتعة الفنية هي أهم ما يتأتى من عملية الكتابة، وأنا لا أقصد متعة الفن للفن طبقا لفلسفة مذهب المدرسة «البرناسية» ولكن أقصد أن تكون المتعة منهاجاً لكل شيء في الحياة، وليس فقط في الكتابة أو الفن، ما أدعو إليه هو أن نعيش المتعة في كل تفاصيل حياتنا بدءا من الأمور الصغيرة المهمشة وحتى الأصعب والأكثر أهمية. الحياة ليست إلا مجموع لحظات العيش في تلك التفاصيل الصغيرة، ابتداء من فنجان قهوة الصباح أو قدح عصير البرتقال مع تفتيح النهار، وهذه البهجة المتدفقة مع ارتشاف قطرات المتعة الصباحية التي لا ندرك قيمتها إذا مررنا بها على عجل وغفلة. تمهل في حياتك... استوعب متعك اليومية، انهل منها وعب قدر المستطاع لأنها هي الحياة الحقيقية ولا تتوهم أن هناك الأهم. استمتع بأطفالك وهم يكبرون، عايش هذا التفتح والنمو في إيناع زهرتهم، انغمر في متعة معايشتهم وفي تذوق هذه الفاكهة التي أنتجتها شجرتك وروعة ثمر عمرك المورق بهم، ولا تنس الشجر العجوز الذي أنتج فرعك، أمك وأبيك، والمتعة المتأتية من هذه الصحبة المتسللة منك وهي معك... الاحتفالية بها متعة عظيمة لأنها تتولد من غروبها وانطفائها، كل لحظة معهما هي متعة منقضية في وقتها ومتحولة إلى ماضيها المتسرب منك. عش مع أحبائك وأصدقائك كأن لن يكون هناك غد آخر، تمتع معهم وبهم... لا تدري من منكم المفارق في لحظته القادمة، اكتنز الأيام والأوقات في ذكريات حلوة تختزنها لأيام الوحشة والوداع. عش المتعة في أي عمل تمارسه لأنه بلمسة عصا سحرية سيتحول إلى لذة مطلقة لو أدركت أن عملك يدوّر عجلة حياتك وحياة الآخرين، وأن في إتقانه تكمن متعته لأنها دليل تفوقك وراية نجاحك. وأخيرا... تذوق متعة المتع وهي الذوبان في العبادة والدخول إلى واحة الصمت، والرحيل في الصفاء الذهني، والتنزه في مجاهل الروح والمناجاة الأقرب إليك من حبل الوريد، والشعور بهذا التماس الوجداني الذي يشف بك إلى المطلق وإلى الجوهر الإلهي العظيم الذي منحك كل هذه المتع لتعيشها بكل الحواس التي وهبك إياها لتستمتع بها، وجعل كل ما حولك رهيفا يكاد يذوب في رقته ورهافته واكتماله، وكان بإمكانه أن يجعل كل ما يحيط بنا يؤدي غرضه مثل الصناعات الشيوعية، تفي بحاجتك ولكن من دون أن تمنح الشعور بالمتعة والاستمتاع بالحواس. فتعلم كيف تقتنص متعك اليومية حتى لا تضيع معنى الحياة.
توابل - ثقافات
حياة حقيقية
20-10-2008