Ad

تتسم جداريات رجل الشارع بالعفوية والميل إلى البوح والحديث عن المخبوء والمسكوت عنه وإفراغ شحنات الغضب على النظام والمجتمع أحيانا وحض الآخرين على الثورة والتمرد، لكن الحوائط رغم رسوخها واستقرارها، تظل في النهاية حوائط مزروعة في المكان وملتصقة به وليست كتباً أو ورقاً يسهل حملها ونقلها ونشر ما دُوّن عليها.

على الصخور والحوائط وجدران الكهوف تعلم الإنسان النقش والرسم والكتابة قبل آلاف الأعوام، فوضع من ثم بداية للتاريخ وحداً فاصلاً بين متاهة البداوة وأشكال المجتمع كلها التي نعرفها، فالرسم والنقش والكتابة هي في الواقع رسائل موجهة إلى الآخرين هدفها؛ التواصل، والاحتماء، والاجتماع، وتأسيس الألفة، ومقاومة العزلة والتشتت.

بعد الأحجار والحوائط خطا الإنسان خطوة إلى الأمام، فكتب على الجلود ولحاء الشجر والخشب قبل ظهور وانتشار الورق الأخف والأنسب والأقدر على حمل الرسائل والوصول بها إلى أطراف العالم، لكن الإنسان رغم ذلك التطور الهائل ظل متشبثاً بالكتابة والرسم على الحوائط باعتبارهما الأصل والأساس والأقدر على البقاء. فالجدران، إضافة إلى رسوخها واستقرارها، تملك القدرة على الصمود ومقاومة الزمن وعوامل الإتلاف بعكس الأوراق والجلود وغيرها، لذلك اهتم القدماء بالرسم والكتابة على جدران المعابد والمقابر والقصور والتماثيل، وسجلوا أيضاً على حوائط الكهوف رحلات صيدهم وطرائدهم لكي ينقلوا إلى الآخرين خبراتهم وتجاربهم وثقافة عصرهم وأحداثه. ومعظم ما نعرفه الآن عن الحضارات القديمة استله الباحثون والمؤرخون وعلماء الآثار من المدونات والرسوم التي تركها القدماء على جدران دورهم ومعابدهم.

الجدار لم يزل حتى الآن هو الصفحة الأرسخ والأقوى والأقدر على حمل الرسائل وحمايتها، وهذا الرسوخ كان ومازال مغرياً للجميع ورمزاً للصمود والصلابة والخلود وبقاء الأثر، وكان من ثم وراء اللوحات الفنية التي زيّن بها رسامو عصر النهضة حوائط الكنائس القديمة في بعض العواصم الأوروبية. وكان وراء شغف الشعراء بالكتابة على الجدران أو تعليق قصائدهم عليها أسوة بشعراء المعلقات وقصائدهم التي علقت في الماضي البعيد على جدران الكعبة تقديراً لهم واعترافا بفحولتهم وجدارتهم بالخلود والبقاء، ربما لأن الشاعر يعرف، قبل غيره، أن الشعر الجيد قليل، ويعي أيضا تحول الذائقة الشعرية من عصر إلى آخر ومن ثم انحسار الاهتمام بشكل أو تيار شعري ما، كما يعي أن التجريب الدائم والبحث عن الحديث والأحدث سيدفع إلى دوائر النسيان بالكثير من القصائد وينحاز فقط للأقوى والأكثر تميزاً.

كذلك ظل الجدار رمزاً للصمود والبقاء واجتياز الهامشي والهش فشاعت في شعرنا الحديث مفردات الجدار- الحائط- المعلّقة ومشتقاتها، خصوصاً في عناوين الدواوين والقصائد، وهذا الشيوع يشير إلى طموح الشاعر وكده وسعيه إلى اختراق الزمن ومقاومة النسيان بقصائد كالمعلقات قوية وقادرة على حفر اسمه وملامح موهبته وتميزه في الذاكرة الشعرية.

وكما انشغل المبدع بالكتابة والرسم على الجدران، انشغل رجل الشارع أيضاً، خصوصاً الغاضب والخائف والمقهور والوحيد، بالكتابة على الحوائط وتسجيل رسائله الموجهه غالباً إلى الآخر المجهول، وتشيع هذه الكتابات على حوائط دورات المياه العامة وزنازن السجون والمعتقلات وأسوار المدارس والقصور... «اعتقلت الشرطة في الأيام الأخيرة طفلين كتبا اسميهما على سور قصر القبة المجاور بعد تجديده وطلائه ووجهت إليهما تهمة الاتلاف والتشويه».

وتتسم جداريات رجل الشارع بالعفوية والميل إلى البوح والحديث عن المخبوء والمسكوت عنه وإفراغ شحنات الغضب على النظام والمجتمع أحيانا وحض الآخرين على الثورة والتمرد، لكن الحوائط رغم رسوخها واستقرارها، تظل في النهاية حوائط مزروعة في المكان وملتصقة به وليست كتباً أو ورقاً يسهل حملها ونقلها ونشر ما دُوّن عليها. وقد أنهى الكمبيوتر هذه المشكلة في الأعوام الأخيرة حين منح الإنسان الغاضب والمقهور والوحيد حوائط من نوع جديد يستطيع أن يخط عليها رسائله، وأن يقذف بها عبر البحار والمحيطات والصحارى إلى الآخرين، كما يستطيع أيضا بهذه الحوائط «الشاشات» أن يوجّه ويحرّض ويضع أمام الناس مشاهد ووثائق تلهب المشاعر وتبدل الأفكار والمفاهيم. وأظننا لم ننس دور المدونين في الفترة الأخيرة وقدرتهم على فضح التجاوزات وحشد المؤيدين والدعوة إلى التظاهر والاعتصام والاضراب والعصيان المدني، ونجاحهم في خلق معارضة للنظام وقيادتها، الأمر الذي أربك الدولة ودفعها إلى مطاردتهم وفرض الرقابة على نشاطاتهم واعتقال بعضهم في أبريل الماضي، لكن هذه الاجراءات لن تفلح في قمع المدونين الذين تضاعفت أعدادهم واكتشفوا قدرة شاشاتهم ومدوناتهم- «حوائط العصر الحديث ومعلقاته»- على التأثير والتغيير.

* كاتب وشاعر مصري