لا شيء أصعب من مواجهة موت الغفلة، هذه الطامة التي تشل حواسنا وتجمد إدراكنا، وتحبس وعينا خارج الوقت.
اللحظة القاسية التي تهزنا هزا، وتهرسنا بالألم الصادم المفاجئ الذي لا مهرب منه ولا مفر من اقتحامه والانسحاق به، لأنه القدر الذي يجتاحك من دون استئذان ولا تنبيه، موت الغفلة وحده القادر على مضغنا ولفظنا خارج حدود الزمان والمكان... بثوان يتجمد الوعي والحس والإدراك حتى يستوعب الحدث... حتى يصدق الهول... حتى يبلع ما لا يتجرع. وحين نستفيق ندرك شاسعة الألم وعمق الجرح المفتوح على الغياب الناضب... الغياب الذي ما منه رجوع... البوابة المفتوحة على الفقد... على الذكريات المشتعلة بالوله، بتوق، بالشوق المبرح بالحنين. وآه يا وجع... أي مسكن قادر على إسكاتك؟ وأي ضمد يضمد جرحك ؟ وأي حضن يحتويك ؟ ليس حولك إلا وحش الافتقاد بكل لحظة يطاردك، يطارد الغياب، والمدفون في الذاكرة المخبوءة... كل ما عشناه... كل اللحظات والثواني المحبوسة في ماضيها تستيقظ لتندفع في هجمة واحدة، تحاصرك في كل ما حولك، حاضرك، مستقبلك، ماضيك، كل شيء يتحول إلى أداة للتعذيب. كيف الهروب مما منه هروب ؟ كيف ننسلخ مما هو فينا ؟ من اكتمالنا، من ظلنا، من نطفتنا، من الكيان الخارج منا، من كل ما كناه، من النحن الرافضة للانشعاب والانتقاص والانقسام، من الليل الطويل الذي لا يطوي ظلامه، ومن النهار الممطوط على ساعات لا تعرف كيف تنطوي على بكرتها، هذه هي حال مواجهة الفقد، وهذه هي حال الرحيل الذي داهمنا على غفلة. نور التي غادرت على عجل فاجأتنا بالرحيل، لم تترك لنا فرصة للوداع، مساحة لترك قبلة على الجبين. مرقت مثل ومضة أشرقت على زمن قصير... ليس إلا عبور... عبور مثل النسيم... رقيق وحان ومنسل... حين تدركه يغيب. وهو أيضا عبور باهظ، غامض، يعجز السؤال عن التفسير، ويتوه العقل في دوامة المعنى وأسباب الوجود... ما معنى هذا العبور الذي لم يحقق المرجو منه؟ ولن يكون هناك أي جواب يبرد نار الأسئلة، لأن المعنى أبعد من إدراكنا ومن كل التفاسير، ماهية الوجود وأسبابها ومواقيتها بيد خالقها العظيم... لذا لا نملك إلا الرضا والرضوخ والقبول بمشيئة الرحمن الرحيم. وللذكرى التي لن تغيب... وسيأتي يوم تتحول فيه إلى لمسة ناعمة تطوق الروح والقلب بحنان ينثر النور والفرح كلما عبر فينا، وسيبقى البرعم معلقا على أكتاف ربيعه الدائم... وسيهرم الجميع، وتشيخ أبدانهم، وتبقى صورتهم معلقة بالذاكرة بجلودهم الباهتة، وملامحهم التي ما عادت هم. وعزاؤنا أن نور ستبقى في ذاكرتنا دائما في عمر الورود، سيشيخ الجميع، وستبقى للأبد ذاك البرعم المعلق في أوج ربيعه. ولأختي ولجمال ولخولة رحمة الله الواسعة التي ستمسح على قلوبهم بصبر ونسيان جميل وجزاء عظيم للصابرين.
توابل - ثقافات
نور التي غادرت على عجل
30-06-2008