بوش إذ يُجهض رؤيته بـ وعده

نشر في 06-05-2008
آخر تحديث 06-05-2008 | 00:00
 صالح بشير

لم يبق للتفاوض من جدوى غير إسباغ الشرعية على ما لا وجود له، على مسار لا يعد بشيء، لأن الرئيس بوش كان قد زجّ به في تناقض قاتل، إذ جعل «وعده» المذكور يجهض «رؤيته» (إقامة الدولة الفلسطينية)، لأن بين الأمرين تنافياً مبرماً، تدل عليه أمارات كثيرة.

أقصى ما قد تسخو به الدولة العبرية، في موفّى سنة 2008 هذه أو قبيْله، هو التوقيع على اتفاقية مع الفلسطينيين، بشأن إنشاء دولة لهم، تتولى بعد ذلك انتهاكها «الاتفاقية» بعدم إنفاذها وإبقائها حبرا على ورق. هذا بطبيعة الحال إن أرادت الدولة العبرية أن تراعي الرئيس جورج بوش، وأن تمكنه من مغادرة البيت الأبيض بشعور من وفى بالتزامات تعهد بها وبوعود قطعها. إذ غني عن القول إن الأمر ذاك اختياري بالنسبة إلى الدولة العبرية، قد تأخذ به وقد لا تأخذ، ولن يكلفها، إن أقدمت عليه، شيئا يُذكر أو أنه لا ينطوي على مخاطرة.

ذلك أن إسرائيل قد ذهبت الشأو الأبعد في إبطال خيار الدولة الفلسطينية وفي تقويضه وجعله متعذرا، إذ ما انفكت، حتى في عز مرحلة التفاوض التي أعقبت اتفاقات أوسلو، عن إقامة المستوطنات وتوسيع ما كان منها قائما، وعن تمزيق أوصال الأراضي المحتلة حتى انتفى كل تواصل بين أجزائها، إلى ما إلى ذلك الكثير مما هو معلوم لا يتطلب إسهابا. وأنكى ما في الأمر أن الدولة العبرية قد استفادت في كل ذلك من مصادقة، على ما تفعل وتقترف، من قبل الإدارة الأميركية الحالية، لم تجرؤ على تقديمها إدارة سابقة، هي المتمثلة في «وعد بوش» الشهير، ذلك الذي تضمنته رسالة وجهها في سنة 2004 نزيل البيت الأبيض إلى آرييل شارون، أقرت المستوطنات الإسرائيلية ورفضت حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة ودعمت الدولة العبرية في امتناعها عن العودة إلى حدود ما قبل حرب السادس من يونيو 1967.

اعتُبر الوعد ذاك، في إبانه، نظيرا لوعد بلفور وصنوا له، والحقيقة أنه أفدح منه وأدهى، فوعد بلفور لم يكن منقوشا في المرمر، استغرق تنفيذه، بين صدوره سنة 1917 وبين قيام دولة إسرائيل في سنة 1948، ثلاثة عقود، وكان يمكن خلالها لمجريات الصراع، لو اتخذت منحى غير ذلك الذي اتخذته، أن تتكفل بإبطاله، أما وعد بوش، فهو من طبيعة أخرى، أسبغ المشروعية على وضع غلبة قائمة وصادق على الواقع الناجم عنها مع أنه مناف للقوانين والتشريعات الدولية، متخذاً من سطوة الولايات المتحدة، بديلاً عن تلك القوانين والتشريعات أو في موقع الأولوية والرجحان عليها.

وذلك هو الإسهام الأكبر والأساسي لإدارة الرئيس بوش في النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، تحولا بعيد الدلالة والغور. إذ هي المرة الأولى التي يتم فيها اعتماد مقاربة أميركية لـ«حل» النزاع ذاك، على أسس مناقضة للتشريعات والقرارات الدولية، بل تجبّ هذه الأخيرة وتنهض بديلا عنها.

قبل ذلك، أتت الولايات المتحدة ما يخالف تلك الأعراف، ولكن لم تعلن تجاوزها وانقلابا عليها. صحيح أنها كانت، على سبيل المثال، سبّاقة إلى الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، ولكن الاعتراف ذاك، لم يقطع كل وشيجة مع القانون الدولي، إذ بالوسع تقديمه على أنه مجرد تأويل له، يتعلق بالقدس الغربية، تلك التي استحوذت عليها إسرائيل منذ حرب 1947 ولا يستبعد التفاوض على تلك المحتلة في سنة 1967. وصحيح أن الولايات المتحدة كثيراً ما استخدمت حقها في النقض لفائدة الدولة العبرية، ولكنها لم تفعل في ذلك سوى اعتماد وسيلة تبقى من طبيعة قانونية، وإن كانت مجحفة جائرة، وصحيح أنها كثيراً ما غضت الطرف عن خرق إسرائيل للقرارات الدولية، ولكنها لم تعلن يوما بطلان تلك القرارات أو أنها في حل من الاعتراف بها، فهي ظلت، تعتبر الأراضي المحتلة أراضي محتلة، وترى المستوطنات غير شرعية... إلخ، وإن أحجمت إحجاما تامّا عن الضغط على حليفها المبجّل.

أما ما فعلته إدارة بوش فيتجاوز كل ذلك ويتخطاه، إذ هي لم تقنع بما توخته واشنطن دوما، من سعي إلى الانفراد السياسي والدبلوماسي بالنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، بل إنها ذهبت إلى أبعد من ذلك بأن نأت به عن القرارات الدولية ومنطقها و«فلسفتها»، وأخضعته إلى مبادئ بديلة، شأن تلك التي تضمنتها، منذ سنة 2004، «رسالة بوش» أو «وعده».

والحال أن التحوّل ذاك، قد جعل من عملية التفاوض أمراً متعذراً، عقيماً، عبثيا، إذ انتقل بغلبة إسرائيل على الأرض من حال إلى حال، من واقع ناتج عن ميزان القوة، يُلاذ بالقوانين الدولية من أجل إصلاح خلله وإجحافاته، على ما يُفترض أنه وظيفة تلك القوانين ومبرر وجودها، إلى مبدأ أساسٍ، فرضته الإدارة الأميركية قانوناً أو كادت.

لذلك، لم يبق للتفاوض من جدوى غير إسباغ الشرعية على ما لا وجود له، على مسار لا يعد بشيء، لأن الرئيس بوش كان قد زجّ به في تناقض قاتل، إذ جعل «وعده» المذكور يجهض «رؤيته» (إقامة الدولة الفلسطينية)، لأن بين الأمرين تنافياً مبرماً، تدل عليه أمارات كثيرة، من هزال الحصيلة إلى عودة الرئيس محمود عباس من واشنطن مكفهرّ الوجه خائباً.

أما آن، والحالة هذه، أوان إعلان الإضراب عن التفاوض، فعل احتجاج هو أضعف الإيمان؟

* كاتب تونسي

back to top