كنت في زيارة إلى الأردن، تلك الواحة الجميلة من السَكينة والاعتدال وسط منطقة عسيرة وخطيرة، حين بلغتني أنباء مقتل جنديين بريطانيين وشرطي كاثوليكي على أيدي الإرهابيين الجمهوريين المنشقين في أيرلندا الشمالية.

Ad

كنا نتطلع عبر التلال الأردنية إلى ما يسميه المسيحيون الأرض المقدسة. وما أدهشني حين تذكرت الأيام التي أمضيتها منذ زمن في أيرلندا الشمالية كيف أن الاختبارات القاسية المتمثلة في الكثير من الصراع والمرارة وسفك الدماء، سواء هناك أو هنا، كانت قليلة للغاية. والحقيقة أن نوعاً من الألفة النابعة من جغرافية أيرلندا الشمالية وغزة والضفة الغربية يجعل العنف يبدو أكثر فُـحشاً وبعداً عن أي تفسير.

هل كان هذا العنف قدراً حتمياً بسبب صِـدام الحضارات والأديان والعرقيات؟ وهل العنف مبرمج في الحمض النووي للبشر بفعل اختلاف التاريخ واللغة والأساليب التي نشبع بها نزعاتنا الروحانية؟

من حسن طالعي أنني كنت في الأردن أقرأ كتاباً بعنوان «البحث عن هوية» (هويات قاتلة) من تأليف أمين معلوف، الكاتب اللبناني الفرنسي العربي المسيحي. والكتاب يشكل في مجموعه هجوماً بارعاً على ما أسماه المؤلف «فهود» سياسات الهوية. ويتمنى معلوف لو يتمكن ذات يوم من اعتبار الشرق الأوسط بالكامل موطناً له، وأن يرى أحفاده في كتابه هذا تَذكِرة غريبة بزمن حيث كان لابد من طرح مثل هذه الحجج وخوض هذه المجادلات.

إن ما يصدق على سياسات الهوية في الشرق الأوسط، ودورها في صياغة علاقة أميركا وأوروبا بالعالم الإسلامي، يصدق بالقدر نفسه على أيرلندا الشمالية، أو كان الأمر كذلك ذات يوم على الأقل.

لقد أمضيت قسماً من حياتي في العمل على معالجة مشاكل الإرهاب في أيرلندا الشمالية، أولاً باعتباري وزيراً في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، ثم بعد ذلك بصفتي رئيساً للجنة التي عكفت على إصلاح أجهزة الشرطة والأمن في المنطقة في إطار اتفاق بلفاست للسلام. ظلت الاشتباكات مستمرة على نحو متقطع بين القبائل البروتستانتية والكاثوليكية طيلة قرون من الزمان، وعلى مدى ثلاثة عقود- وهي الفترة التي يطلق عليها الآن على سبيل التخفيف «زمن المتاعب»- تسبب الإرهاب في حصد أرواح ما يزيد على ثلاثة آلاف من البشر، فضلاً عن عشرات الألوف من الجرحى.

كان ذلك صِداماً بين هويتين ولم تربطه أي علاقة بالرسالة الأساسية للمسيحية، ولكنه كان مروعاً إلى حد بائس. وأتذكر الآن حين زرت مستشفى في بلفاست لأول مرة مدى صبر الممرضات الشابات في قسم الحوادث والطوارئ وهن يشرحن لي الفرق بين إصابات الركبة البروتستانتية والركبة الكاثوليكية. ولم يكن الفرق راجعاً في الحقيقة إلى عقيدة أو حتى طقس ديني. بل إن الأمر يتلخص في أن الكاثوليك كانوا يستخدمون بندقية صيد لتنفيذ هذه العقوبة الوحشية لتدمير مفصل الركبة، أما البروتستانت فكانوا يستخدمون مثقاباً كهربائياً.

كنا نتصور أن مثل هذه الأحداث البشعة أصبحت تنتمي إلى كتب التاريخ فحسب، إلى أن وقعت جرائم القتل الأخيرة. لقد نجح اتفاق بلفاست للسلام الذي أبرِم في عام 1998 في تأمين السلام لأكثر من عشرة أعوام. ويتلخص جوهر ذلك الاتفاق في مسألة بسيطة: ألا وهي قبول الجمهوريين، الذين حاربوا في سبيل توحيد أيرلندا- دمج الشمال الذي تسكنه أغلبية بروتستانتية مع الجنوب الذي تسكنه أغلبية كاثوليكية- لحقيقة مفادها أن التغيير الدستوري لن يتسنى إلا من خلال صناديق الاقتراع.

نجحنا في إقناع الجيش الجمهوري الأيرلندي الإرهابي وجناحه السياسي بالمشاركة في العملية السياسية وتقاسم السلطة. وفي المقابل وافقت الأغلبية البروتستانتية في الشمال على أن الجمهوريين ليس عليهم بالضرورة أن يتقبلوا رموز الدولة التي لا يشعرون بأي ولاء نحوها. فضلاً عن ذلك، كان من الضروري إعادة تنظيم قوات الشرطة والأمن على النحو الذي يجعلها تمثل المجتمع بالكامل، وليس الأغلبية البروتستانتية في الأساس. من المثير للاهتمام أن قضية إصلاح الشرطة كانت المسألة الوحيدة التي لا تستطيع الأحزاب السياسية حلها بمفردها. وعلى هذا فقد استدعيت، بصحبة مجموعة من الخبراء في أمور الشرطة، لترتيب هذا الأمر.

أدت هذه الصفقة إلى سنوات من السلام. ولم يخلُ الأمر من المنغصات، ذلك أن بعض التنازلات التي كان لزاماً على الديمقراطيين أن يقدموها إلى من كانوا من الإرهابيين ذات يوم كان من الصعب تقبلها عن طيب خاطر. ولكن النتيجة النهائية كانت عودة الحياة الطبيعية لأهل أيرلندا الشمالية الذين يبلغ تعدادهم مليون ونصف المليون نسمة.

الحقيقة أنني لا أرى الأحداث الأخيرة من منظور مأساوي- دون التهوين من حجم المأساة التي ألمت بالأسر المكلومة. فما حدث لا يتعدى كونه نوبة فوضوية عابرة من العنف من جانب أقلية ضئيلة. وهذا يساعد على نحو ما في تسليط الضوء على أهمية ما تم إنجازه في أيرلندا الشمالية.

فأولاً، اجتمعت كل الطوائف في أيرلندا تقريباً على التنديد بما حدث. وثانياً، كانت نوبة العنف هذه سبباً في تعزيز العملية السياسية، حيث وقف قادة الجيش الجمهوري الأيرلندي سابقاً كتفاً إلى كتف مع قوات الشرطة في إدانة القتلة. وثالثاً، أصبح جهاز الشرطة بعد إصلاحه يُـنظَر إليه على نطاق واسع باعتباره حامياً للمجتمع بالكامل، كما تشجع الشباب الكاثوليكي على الانضمام إلى قوات الشرطة بدعم من قساوستهم وأساقفتهم. والآن أصبحت قوات الشرطة والأمن أكثر قدرة على التعامل مع الإرهاب.

لقد فكرت في الدروس التي يمكن استخلاصها في الشرق الأوسط أثناء قيادتي لسيارتي من طرف الأردن إلى طرفه الآخر. وربما توصلت إلى درسين. من الواضح أن فلسطين لن تعيش أي سلام ما لم نبدأ في التحدث مع «حماس»- وهي النقطة التي لابد أن السناتور جورج ميتشيل مبعوث الرئيس باراك أوباما الخاص إلى المنطقة يدركها تمام الإدراك بعد خبرته الكبيرة كوسيط ناجح في أيرلندا الشمالية.

أما الدرس الثاني فيتلخص في ضرورة نبذنا للأفكار البالية والمفاهيم الخاطئة بشأن الهوية. وهي النقطة التي ربما كان إدراكها من السهل على رجل مثلي، كاثوليكي من أحفاد مهاجرين أيرلنديين فروا من المجاعة ومع ذلك أصبح وزيراً بريطانياً وآخر حاكم لآخر مستعمرة بريطانية.

* مفوض الاتحاد الأوروبي الأسبق لشئون العلاقات الخارجية، ورئيس حزب المحافظين البريطاني سابقاً، وكان آخر حاكم بريطاني لهونغ كونغ.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»