تنقيح العقول أولاً!
مع كل أزمة سياسية، أو «هوشة» نيابية حكومية، تظهر الأصوات العالية من جديد لتضج الأسماع بمطالبها المعتادة «لا للديمقراطية... لا للدستور... أوقفوا مجلس الأمة عند حده»، ثم للتدليل على سلامة نواياهم، وبيان حرصهم على مصلحة البلاد والعباد، يبدؤون بتذكيرنا بمساوئ مجلس الأمة العديدة وبفساد بعض نوابه الذي تجاوز الحدود «انظروا ماذا عمل النواب... اسمعوا ماذا قال النواب... فكونا من تصريحاتهم... ريحونا من تدخلاتهم... ارحمونا من تجاوزاتهم، فهم سبب المشاكل في البلد»!ومحدثكم، العبد لله، من غير الهاوين للسياسة، ومن غير المتحمسين لأهلها، بل من غير المتابعين لكثير من شؤونها، ومع ذلك، يعتقد اعتقادا جازما لا يخالطه شك، بأن بعض النواب الحاليين- رعاهم الله- «نوائب» من الدرجة الأولى، وأن انتخابهم كان خيبة ما بعدها خيبة، وأن وجودهم في قاعة عبدالله السالم طامة ما بعدها طامة، وأن صراخ وألفاظ بعضهم تحت قبة البرلمان انحدار ما بعده انحدار، وهو كغيره من العقلاء (نحسبه كذلك) قد ضرب أخماسا بأسداس، حين قرأ أسماء الفائزين بالانتخابات البرلمانية الأخيرة، وقال وقتها متشائما ومحبطا، وهو يشاهد صور بعضهم، محمولين على أكتاف مريديهم والضحكة تعلو وجوههم... «آدي دقني... وابقى قابلوني... لو فلحتوا»!
وقد تيقن لحظتها بأن ما يقال عن الإنسان العربي من أنه «مو كفو ديمقراطية» كلام صحيح مئة في المئة، أثبتت التجارب العديدة صحته مرارا وتكرارا، فهو لا يصلح لها، وهي لا تصلح له، واقترانه بها ظالم وباطل، لعدم التكافؤ أولا، ولعدم وجود معرفة سابقة بينهما، فكلمات مثل «انتخابات»، «دستور»، «ديمقراطية»، لاتزال بالنسبة إليه ألغازا مبهمة، لا يفهم معناها ولا يدرك قيمتها أو أهميتها لحياته ولمستقبل أبنائه!و«الإنسان العربي» كائن دكتاتوري أينما وجد، في البيت أو في العمل أو في الديوانية أو أي مكان آخر، والديمقراطية بالنسبة إليه «وبحسب موقعه من الإعراب» لا تعدو أن تكون مجرد وسيلة يصل عن طريقها إلى مراتب ومناصب تفوق قدراته ومؤهلاته، أو واجهة «يكشخ» بها أمام العالم المتحضر في المؤتمرات والندوات، أو «بلوى ابتُلي بها» ولا يعرف كيف يتخلص منها، أو أي شيء آخر غير ما يفهمه الناس في كل أقطار الأرض عن معنى الديمقراطية الحقيقي! ولذلك، كان اختياره لممثليه في البرلمان دائما سيئا، أو دون المستوى، ومجلس الأمة الحالي خير مثال على ذلك، فقد كانت محصلته بعض النواب الذين تفرغوا لكتم الأنفاس ومصادرة الحريات وإساءة استخدام الأدوات الدستورية ونشر الفتن الطائفية والتهديد بالاستجواب على كل صغيرة وكبيرة، وترافق ذلك مع الضعف الواضح والصريح لحكومة تشكلت عبر المحاصصة والترضيات، لتتحول جلسات البرلمان إلى «نجرة» حكومية نيابية مستمرة، لم يضع لها حد أو نهاية إلا تدخل حضرة صاحب السمو، وقد صدقت توقعات صاحبنا، ولم يفلحوا بشيء، ولم يحلق أحد ذقنه!والواقع الذي لا يمكننا إنكاره هنا، هو أن بيننا وبين الممارسة الصحيحة للديمقراطية بوناً شاسعا، وطريقاً طويلاً مليئا بالمصاعب والمتاعب والمعوقات و«المعوقين» (بكسر الواو) كذلك، لكن برغم هذا كله، علينا ألا نرى الواقع بعين حولاء تضع الخطأ والزلل في غير محله، أو توجه أصابع الاتهام للديمقراطية أو لبنود الدستور، لنخرج بعدها، نحن وثقافتنا ووعينا وحسنا الوطني من المسألة براءة «زي الشعرة من العجين»!يا سادتي الأكارم والأفاضل، المشكلة لم تكن يوما في صندوق الانتخاب، بل في واضع الورقة الذي يسيء الاختيار، والعيب لم يكن يوما في المقعد النيابي الأخضر، بل في بعض من يجلسون عليه صارخين متوعدين ومتجاوزين لصلاحياتهم، والعلة لم تكن يوما في الأدوات الدستورية، بل في من يستغلها في الابتزاز وتمرير المصالح الشخصية، والخلل لم ولن يكون في الديمقراطية ليتم استبدالها بنظام آخر، بل الخلل كان فينا ومازال، كشعب يفتقد الكثير من الوعي والحس الوطني، ولن يحدث التغيير ما لن نغير ما بأنفسنا!لأن أس بلائنا في حقيقة الأمر، هو في الثقافة المصلحية الآنية التي أصبحت تسيطر اليوم على الجميع، مواطنين ونواباً وحكومة، ومنها يجب أن يبدأ الإصلاح ويحدث التغيير، وذلك حين يتم القضاء على المفاهيم القبلية والطائفية والفئوية والمصلحية، وحين يزداد الوعي والإدراك والحس الوطني عند الجميع، لا بوأد الدستور والقضاء على الديمقراطية!أما الذين يطالبون «بحسن نية أو سوء نية» بتنقيح الدستور، فعليهم أن ينقحوا العقول والقلوب قبل أي شيء، ففيهما الخراب والبلاء كله، وهما من بحاجة للعلاج الفوري حقا!