الحرمان من الحبيب غالبا ما كان وقودا يأجج نار الغرام ويبقيها متقدة، يعاني المحب الأمرّين من أجل رؤية من يحب ولو صدفة وللحظات قليلة، وتبقى هذه اللحظات أجمل ما في العمر كله بالنسبة الى الحبيب!

Ad

الشبابيك، الأبواب المواربة، جنح الظلام، الرقيب، الطرقات، الأحلام، الطيف، الوعد... ألخ كلها أصبحت من مفردات الوصل بين المحبين ومن طقوسه، لا يكاد يخلو ذكر وصال من هذه المفردات أو بعضها.

الآن وفي زمن التكنولوجيا المتطورة كادت تختفي هذه الطقوس الرومانسية من حقيبة الوصال ومن ذاكرته هذه المفردات، إذ لم يعد فعليا هناك من صعوبة في رؤية الحبيب أو سماع صوته، كل الوسائل التكنولوجية مسخرة لإلغاء المسافات، وجعل كل ما (ومن) هو بعيد بين يديك! وكدنا لا نسمع في شعرنا عن مشاعر التوق للحبيب والموت لهفة على رؤيته والحديث معه، هذه المشاعر تكاد تندثر من أدبنا المعاصر، فهل يعني هذا أن الأحبة ودعوا الحرمان إلى الأبد؟! وأصبحوا يرفلون بثياب نعمة الوصال رغما عن أنف الرقيب؟!

هل ستختفي من قصائدنا مناشدة الوصل، والتحرق المر لرؤية الحبيب ولو في المنام؟! هل ستندثر تلك الأغاني الجميلة والكثيرة التي أُبتدعت فقط احتفالا بالوصل أو طلبا له؟!

وأين سيذهب هذا التراث الهائل في هذا الموضوع مع الأيام؟!

باعتقادي أن كل ذلك سيبقى، بل أن حاجتنا اليه تزداد مع الوقت، لأن الحرمان من الحبيب باق، وإن اتخذ هو الآخر شكلا معاصرا ومعقدا تماشيا مع التطور!

الآن تحولت قضية الوصل إلى تواصل! الحبيب في متناول من يحب غالبا، إلا أنه لايراه! لايرى روحه، لا يحس بها، لا يرى ملامح مشاعره وتفاصيلها، وليس غريبا أن ترى حبيبين قريبين جسديا من بعضهما ويجمعهما نفس المكان، إلا أنهما أبعد ما يكونا عن بعضهما من الداخل، لم يعد المحب قادرا على قراءة أحاسيس من يحب، ولا قياس حرارة لهفته مثلا من مجرد لمسة يديه!

أصبح الحبيبان جزرا معزولة عن بعضهما، لا تصلهما جسور أو طرقات، لا يصلهما ببعضهما سوى... الصمت، حتى الصمت... كان العاشق فيما مضى قادر على قراءته، وفك شفرته، أما الآن فالحبيب عاجز عن قراءة وفهم صوت من يهوى وإن كان مسموعا ،فما بالك بصمته!

وأظن أن عدم قدرة المحبين على التواصل مع بعضهما من خلال اللغة، أو النظرة، أو الإحساس، أو اللمسة، ليس بسبب علة في حبهما، وإنما لعلة فيهما كأنسانين معاصرين! الإنسان المعاصر مليء بالأسئلة، والحيرة، والخيارات الصعبة، والتشتت الذهني، لذلك فإن الرسائل التي يرسلها من خلال لغته، أو عينيه،أو أي وسيلة أخرى تكون في الغالب مربكة، لا تحمل من الصفاء ما يجعل الآخر قادرا على قراءتها وفهمها بوضوح، ودونما لبس!

عدم القدرة إلى الوصول إلى ذات الحبيب وروحه هي ما تجعل الحرمان منه قائما، وهي ما ستجعل الحرمان رفيقا للعشاق على مر العصور، ما يعني بقاء تراثنا العظيم في الوصل، وبقاء الإحساس الرومانسي المتمثل بالاشتياق لرؤية من نحب ولكن... من الداخل!