كثيرون في شرقنا يفضلون إلقاء المسؤولية على الآخر لأنها توفر لهم الأمان والراحة. وفي الواقع، هذا هو سبب تخلف مجتمعاتنا الاتكالية، فهي مجتمعات تساق كالقطيع من دون تحمل أدنى حد للمسؤولية.الحرية في مفهوم الكثير من المتشددين والمتطرفين ليست إلا انحلالا وتفسخا للأخلاق وانسلاخا عن الهوية ودعوة لنشر الرذيلة والفاحشة وتلك المصطلحات كلها التي تشوه المعنى الحقيقي للحرية، والتي تدل على «الفوبيا» التي تعانيها بعض العقول الصدئة، حينما ترفض وتهاجم المثقف والمفكر والمجدد أو تكفره أو تخرجه من الملة أو تحل دمه. ويتجسد هذا الخوف أيضا من خلال محاربتهم لحرية التفكير والتعبير، وحق المرأة، وحق اختيار العقيدة، متجاهلين أن الأديان جميعها أتت لتحرر الناس من الطغيان والعبودية. فعكس الحرية هي العبودية وما مقولة عمر بن الخطاب الشهيرة «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا» إلا تجسيد لأهمية الحرية للإنسان ودينه ومجتمعه.
لا يعي ولا يستوعب هؤلاء المتشددون أن الحرية هي أهم القيم الإنسانية على الاطلاق، ففي غياب الحرية الفكرية لن يتمتع الإنسان بالإيمان الحقيقي الحر، وسيحل محله التدين الظاهري والنفاق الاجتماعي. فما قيمة الإيمان والعبادة إن كانا مبنيين على الضغط والإكراه والترهيب؟ إذ لا حرية اختيار دون التمتع بحرية التفكير والتعبير، ولا تنمية اجتماعية وثقافة إبداعية وتطور اقتصادي دون الحرية الفكرية.
وبعكس المجتمعات الحديثة التي رسخت وعمقت قيم الحرية في الوعي الإنساني، يغيب مفهوم الحرية عن موروثاتنا الثقافية، الذي لا يتعدى عتق الرقيق، وينعكس هذا الغياب على فكرنا وسلوكنا وأخلاقنا، فنحن نتاج ثقافة استبدادية تراكمت عبر تاريخ حافل بمظاهر الظلم والقهر والاستعباد، وما اعتزازنا بمقولة «المستبد العادل» إلا دليل على كرهنا وخوفنا من الحرية والحداثة، متجاهلين أن معاني العدالة والمساواة لا تتأتى إلا ضمن إطار الحرية. ويرى الطهطاوي «رائد التنوير في العصر الحديث»، (الذي عاش في فرنسا لسنوات وتأثر بحداثتها وحريتها)، أنه لا كرامة إنسانية ولا تطور وإبداعا دون حرية، وأن كرامة الأفراد في المجتمعات المتمدنة هي من كرامة الوطن، وهم بالتالي يحبون أوطانهم ويسعون إلى مزيد من البذل والعطاء من أجل تطورها وتقدمها.
وعلى عكس ما يعتقد الكثير من الناس، فإن الحرية هي مسؤولية لا فوضى، فهناك علاقة وطيدة بين الحرية والمسؤولية، فالمسؤول يجب أن يكون حراً والحر ينبغي أن يكون مسؤولا. والحرية تتطلب التخلص من الاتكال والخضوع والخنوع للكهنوت وولي الأمر والعادات والتقاليد وتدعو إلى استقلالية العقل وتقبل القراءات المختلفة والاطلاع على أوجه المعرفة المتعددة. وهذا ما يجعل الكثير في شرقنا يفضل إلقاء المسؤولية على الآخر لأنها توفر له الأمان والراحة. في الواقع، هذا هو سبب تخلف مجتمعاتنا الاتكالية، فهي مجتمعات تساق كالقطيع من دون تحمل أدنى حد للمسؤولية. فحين تتوافر سبل الحرية من خلال صناديق الاقتراع، نجد الشعب يختار (طوعا) من يقتل هذه الحرية ومن لا يتحمل المسؤولية الإنسانية في التطور والتنمية والتقدم. لذا يجب على من اختار ممثلين متشددين ومتطرفين في مجلس الأمة، التوقف عن التذمر والسخط تجاه ما يحدث من تعطيل للتنمية واستشراء للفساد والواسطة وتجذير للتطرف والطائفية، فالاستبداد سبب الفساد والبيئة المنغلقة سبب التطرف والإرهاب، ومن يمارس حرية الاختيار فعليه أن يتحمل مسؤولية وعواقب اختياره.