Ad

لا يفعل العنصري الإيطالي غير إعادة إنتاج ما كابده هو أو بنو جلدته هوانا واضطهادا على أيدي الغير، ولكن بطريقة يتولى فيها دور ذلك «الغير»، أي دور من يُسلّط الاضطهاد، من يكره ويمجّ ويُقصي ويحتقر ويعتدي، تأكيدا لذات بلغت من الثراء ما جعلها تستقطب الجياع والبؤساء. هي إذن، بمعنى من المعاني، «عنصرية الثأر» للذات.

حول الموجة العنصرية التي تجتاح إيطاليا هذه الأيام، بذيء تصريحات يتجشأها البعض وأعمال عنف تُرتكَب، نشر الكاتب كلاوديو ماغريس، وهو من أبرز مثقفي البلاد وأحد كبار المختصين في تاريخ أوروبا الوسطى، مقالا في يومية «الكوريري ديلا سيرا»، نعى فيه على مواطنيه سلوكا رآه لا عقلانيا إلى الجبن أقرب، إذ لاحظ أنهم لا ينبسون باحتجاج حيال ما تسومهم إياه مختلف المافيات المستشرية من امتهان ونهب، يخضعون لمشيئتها ويدفعون لها الإتاوات صاغرين، ولكنهم يجترئون، «متمرجلين»، على المهاجرين ممن لا حول لهم ولا قوة، فيحرقون مخيمات الغجر الوافدين من شرق أوروبا ويعتدون، بنابي الأقوال وفظيع الأفعال، على من يصادفون من أفارقة أو «مسلمين».

قد يُستخلص من كلام الكاتب الإيطالي هذا أن المهاجرين يشكلون ضحايا بديلة عن قوى تُخشى وتُتوجس، تعطي المندد بهم ومن يستهدفهم الانطباع بأنه مواطن فاعل في محاربة «الجريمة»، أي ما قد يرتكبه بعض المهاجرين من جُنح، فيثأر بذلك من تقاعسه ومن خنوعه حيال «الجريمة» الحقة، تلك المنظمة. قد يكون ذلك صحيحا، ولكن شرط عدم الاكتفاء به، إذ إن سلمنا بأن المهاجر يضطلع بدور الضحية البديل عن طرف أو عن أحد، فالأرجح أن الطرف أو الأحد ذاك، إنها هو الإيطالي نفسه عندما كان مهاجرا وكابد ما كابد على أيدي «مضيفيه» في البلدان التي قصدها طلبا للرزق.

إذ من المعلوم أن إيطاليا كانت طوال القرن التاسع عشر والثلثين الأوليْن من القرن العشرين، بلد هجرة كثيفة، دفقا بشريا عارما باتجاه فرنسا وألمانيا وسويسرا وسواها من بلدان الشمال الأوروبي، وكذلك باتجاه أميركا الانكلوساكسونية وتلك اللاتينية وأستراليا، وأن مهاجريها أولئك لم يكونوا محلّ ترحاب، بل كان يُطلق عليهم وضيع الألقاب، وكانت صورتهم مزرية، صورة قذارة وفوضى وعنف، يوصفون بالكسل وبالميل إلى الارتزاق من كل ما يخلّ بالقانون وبالأخلاق العامة. فالمهاجر الإيطالي كان في نظر الأميركي على سبيل المثال متسكعا يصطحب قردا وآلة أكورديون يستخدمهما في التسوّل، أو كان يوصف «بالزنجي الأبيض»، إمعانا في امتهانه بمماثلته بالسود في بلد كان يتخذ من التمييز العنصري أقنوما ونظاما. وقد تلقى الإيطالي مختلف صنوف الاضطهاد في مختلف مهاجره، كانت تُنظم ضده الاعتداءات الجماعية في فرنسا، في ما يشبه البوغرومات التي كانت تستهدف اليهود، وكان القانون السويسري يحظر عليه استجلاب أبنائه، حتى إذا ما فعل سرّا، اضطرهم إلى العيش داخل البيت لا يبرحونه قطّ، وقس على ذلك الكثير.

ذلك التاريخ، وهو طازج ماثل في الأذهان إذ إن إيطاليا استمرت مصدرا للهجرة حتى سبعينيات القرن الماضي، عاشه كل إيطالي، تجربة مباشرة أو عبر أحد أفراد الأسرة، وإن أضحى يسعى إلى التستر عليه وإلى تناسيه، هو ما قد يفسر، وإن جزئيا، العنصرية التي أضحت مستشرية في ذلك البلد. إذ لا يفعل العنصري الإيطالي غير إعادة إنتاج ما كابده هو أو بنو جلدته هوانا واضطهادا على أيدي الغير، ولكن بطريقة يتولى فيها دور ذلك «الغير»، أي دور من يُسلّط الاضطهاد، من يكره ويمجّ ويُقصي ويحتقر ويعتدي، تأكيدا لذات بلغت من الثراء ما جعلها تستقطب الجياع والبؤساء. هي إذن، بمعنى من المعاني، «عنصرية الثأر» للذات على حساب من هو أضعف.

غير أن «عنصرية الثّأر»، إن صحّت في الحالة الإيطالية، لا تنحصر فيها على ما يبدو، وعلى ما تدل الأنباء الواردة من جنوب إفريقيا، حيث استفحلت أعمال العنف في حق أشقاء الفاقة و»البشرة» الوافدين من البلدان المجاورة والمنكوبة بالفقر وبالحروب، وأدت إلى سقوط عشرات الضحايا وإلى ترحيل عشرات الآلاف، ممن قفلوا عائدين إلى بلدانهم أو ارتادوا آفاقا أخرى، أقسى، للهجرة والنزوح.

إن كان من بلد كان من المفترض فيه أن يكون محصنا ضد مشاعر الحقد العنصري وكراهية الآخر، فهو جنوب إفريقيا، ذلك الذي عانى أبناؤه، لا سيما السود منهم دون نسيان الهنود والخلاسيين، من مثل تلك المشاعر أفظعها، نظامَ فصل عنصري أناخ بكلكله ردحا من الزمن، تسلّطا مارسته أقلية بيضاء أعلنت تفوقها العرقي على أبناء البلد واعتبرت تفوقها ذاك مصدر شرعية يخولها الانفراد بالسلطة والاستبداد بها وسحق من لا يجري في عروقهم «دمها الأزرق»، ومن وضعتهم مصادفات الولادة ولون البشرة في المراتب العرقية الدنيا... حتى استوى ذلك النظام عنوان الشين في نظر الضمير الإنساني، الذي مجّه وعزله حتى آن أوان اجتثاثه.

ولكن الإنسان نسّاء، حتى في جنوب أفريقيا على ما يبدو، وإلاّ لما انفجرت المشاعر العنصرية، فتّاكة قاتلة، لا يردعها راع، على أيدي من كانوا ضحاياها بامتياز، وممن يبدو أنهم أرادوا أن يثأروا، وقد قيض الله لهم من هو أضعف منهم، مما سبق لهم أن كابدوا في ذلك الصدد، فإذا الحاجة تلك تتقدم لديهم على قيَمٍ كانت خيرا لهم أيام كفاحهم ضد نظام «الأبرتايد».

ونحن إن سلمنا ببروز هذا الذي أسميناه «عنصرية الثأر»، منحى مستجدّا يشي باستفحال العنصرية خارج ما يمكن اعتباره معاقلها التقليدية، أي الغرب الأبيض والانكلوساكسوني على نحو خاص، وبلوغ عدواها إلى ضحاياها السابقين باتت تسم سلوكهم، دون عقدة أو حرج على ما يبدو، فإنه لا يسعنا إلا الإشارة إلى تجربة كان لها، بلا ريب، دور السبق والتأسيس في إرساء «عنصرية الثأر» المشار إليها، هي المتمثلة في الحركة الصهيونية، تلك ما انفكت تستعيد على حساب الفلسطينيين، كل ما ألم، بحذافيره، باليهود طوال تاريخ معاناتهم المديدة، اضطهادا وملاحقة وتقتيلا وتشتيتا وازدراء... وحالة «الثأر» هذه معلومة لدينا بما يغني عن الإسهاب فيها.

* كاتب تونسي