حديقة الإنسان: الصادر... والوارد

نشر في 01-05-2009
آخر تحديث 01-05-2009 | 00:00
 أحمد مطر كنت قد بدأت تناول غدائي للتو، عندما دخل (هادي) ذو السنوات الخمس البيضاء، وانتصب في باب الصالة مثل بسطار عسكري ملطخ بالوحل.

قال: (أمي تريدك).

نهضت بسرعة وتبعته مستكملا بلع اللقمة في طريقي.

صاحت أمي حانقة: (أكمل طعامك... إنهم لن يطيروا).

قلت لها وأنا أجري: (سأعود حالاً... غطّيه واحرسيه من الذباب).

استقبلتني (أم جواد) متهللة عند باب البيت، وجرتني من يدي إلى الداخل قائلة مثل كل مرة: (تعال.. جاءك رزق).

كنت أعرف هذا، لكن تصريحها كان يسعدني دائما لأنه تأكيد مسبق على أن الأمر لن يكون لوجه الله.

طلبت مني الجلوس على البساط، ومضت هي إلى زاوية الحجرة، وغمست يدها في صندوق من الكرتون، ما لبثت أن أخرجت منه مظروفا وقلما ودفتراً مدرسياً. عادت لتجلس قبالتي. رمت المظروف والقلم في حجري، وانتزعت ورقة من الدفتر ثم سوتها فوقه ووضعته فوق ركبتي.

قالت بعجلة ولفهة: (اكتب).

أمسكت القلم وانتظرت.

رصّت قبضتها، على خدها، وتنهّدت قائلة: (بسم الله الرحمن الرحيم.. صباح الخير إن كان صباحاً.. ومساء الخير إن كان مساء.. حضرة جناب الأخ المحترم والدي العزيز أبو زهرة..)

توقفت عن الكتابة.

نخزتني بسبّابتها محتجة ومستحثة: (اكتب).

قلت لها: (خالتي أم جواد.. كيف يصير جناب الأخ والدك؟!)

قالت: (ماعليك.. هكذا كان عمي يكتب له).

قلت لها: (لكنّه أخوه)!

قالت بحسم: (وهل أنا من فطر الحائط؟ أنا أيضا ابنته.. اكتب).

خشيت أن أواصل الجدل فيضيع رزقي، فعملت بكل ما أملكه من رداءة في الإملاء على تصريف طوفان أحزانها ولوعتها وشكواها من نزق جواد وهادي، ومن فراق زوجها الجندي الذي لا تُرجى عودته من حرب الشمال، ومن عداوة الجيران، ومن سوء كل شيء تقريباً.

وحين انتهيت، ورفعت رأسي عن الورقة، رأيت عينيها الحمراوين طافحتين بالدموع.

قامت، مثل كل مرة، وأشعلت سيجارة، ثم قدمتها إليّ قائلة: (لا أوصيك.. من هنا، ومن هنا ومن هنا. لا تحرق الكلام).

كانت تلك هي طريقتها في التعبير عملياً عن حرقة قلبها.

شرعت أثقب الورقة من أطرافها بجمرة السيجارة، محاذراً من اندلاع اللهب فيها، وحين انتهيت، بدأت بطيّها، فانتبهت إلى أن ظهرها ممتلئ بالسطور المكررة: (نار نيران نور.. دار داران دور.. قدري قاد بقرنا)!

أدركت حالا أن الخالة قد انتزعت هذه الورقة من دفتر جواد، وعليها واجب القراءة واكتشفت أن نار السيجارة قد أحرقت نار الدرس، وشبت في الدور، ولم تُبقِ من (بقرنا) سوى حروف الباء!

فكرت في أن أمام جواد ثلاث سنوات ليصبح مثلي في الصف الرابع الابتدائي وعندئذ سيتولى وظيفتي ويقطع رزقي.

وتحت سطوة هذه الفكرة، شعرت بالغيظ فدسست الورقة في المظروف، ولعقته بلساني وألصقته، دون أن أبدي للخالة أي ملاحظة على واجب جواد المحترق، أعطتني عشرين فلسا، وقالت: (هذه العشرة للطابع... وهذه العشرة لك).

لم يمض أكثر من شهر، حتى انتصب (هادي) في باب الصالة، وقال باقتضاب: (جدي بريدك).

كنت قد تعشيت منذ ساعتين، ولذلك فقد انطلقت هذه المرة دون خوف من حنق أمي، ودون حرج من تكليفها بحراسة طعامي.

ابتسم (أبو زهرة) عن ضرس واحد يكاد ينهدم من فرط الوحشة.

كان جالسا فوق البساط وسط الحوش، متكئا على وسادة غليظة، وكانت (أم جواد) جالسه أمامه تعد الشاي على منقلة الفحم.

دسّ يده في جيبه وأخرج مظروفا مغلقا، وقال لي بما يشبه الغمغمة: (تعال يا سبع.. اقرأ لي هذا المكتوب).

حدقت (أم جواد) في المظروف بريبة ظاهرة، لكنها لم تنبس ببنت شفة.

فضضت المظروف، فاستحال شكي على الفور يقينا قاطعا. كانت الثقوب السوداء جاثمة فوق النار والدور وبقرنا!

ما إن شرعت بالقراءة حتى صرخت (أم جواد) كالملدوغة: (هذا مكتوبي!).

رفع (أبو زهرة) يده مسكتا إياها بالإشارة، لكي يستطيع مواصلة الاستماع، وكان في أثناء ذلك يهز رأسه بتأثر واضح.

وعندما انتهيت رأيت الدموع تلتمع فوق خديه، ورأيته يميل ناحية ابنته ويحضنها بحنان ويقبل رأسها قائلا: (من يدريني؟ المضمد حمدان هو وحده الذي يستطيع قراءة المكاتيب. وقد التحق بعمله قبل ستة أسابيع، ولم يعد إلى القرية منذ ذلك الحين. لو كنت أعلم أن المكتوب منك لفتحته وشممت رائحتك على الأقل).

حمدت الله لأنه لم يفتحه، إذ لو أنه فعل لما شم سوى رائحة احتراق بقرنا!

التفت إليَّ وابتسم: (هاه.. نسيتك.. خُذْ يا سبع) وأعطاني عشرة فلوس.

مددت يدي والتقطت العشرة بفرحة مشوبة بالخجل. (عشرتان لمكتوب واحد).. هكذا قلت في نفسي وأنا أشعر بغبطة عارمة.

وضعت العشرة في جيبي، ومضيت نحو الباب، لكنني قبل أن أخرج، التفت بقلب خافق بالطمع، وسمعت صوتي الخفيض يتأود بوقاحة مثقلة بالحياء: (هل تريد أن أكتب لك جوابا على المكتوب؟).

* شاعر عراقي

back to top