في نهاية عقد التسعينيات، جمعني لقاء بشاب كويتي كان قد تسلّم لتوه موقعا إعلاميا جيداً وذلك بحكم وظيفتي كصحافي. أخذ الشاب المفوّه ذو الثقافة الواسعة والعلاقات المميزة، يحدثني عن الشأن العام والقضايا السائدة في حينه، وكان أهمها تهديد نظام صدام حسين للكويت وما كان يدور عن تغاضي إدارة بيل كلينتون في نهاية ولايته الثانية عن محاولات إعادة تأهيله وعودته إلى المجتمع الدولي، وتداعيات ذلك على الكويت ببقاء خطر نظام البعث العراقي علينا لسنوات طويلة قادمة.

Ad

بدأ الرجل يتحدث بإسهاب، دون أن يمنحني فرصة للتعليق، عن نظريات الأمن الوطني، والدفاع الذاتي، وربط المصالح مع القوى المؤثرة في العالم، والتضحية من أجل الوطن، وكذلك عن عسكرة المجتمع الكويتي للاعتماد على نفسه، وأخذ يضرب لي أمثلة تايوان وسويسرا وسنغافورة وإسرائيل كدول صغيرة بإمكانات دفاعية كبيرة.

النقاش بيننا امتد إلى أكثر من ساعة، وغادرت معجباً لمنطقه وقوة حجته، ولكنني بعد فترة التقيت بأحد الأصدقاء المحامين وخلال «السوالف» طرأ اسم الشاب صاحب المنطق والحجة... فقال صديقي المحامي إنه شخص «فاهم» وكنت قد وكلت عنه في قضية تخلف وهروب من التجنيد الإلزامي... ودفع غرامة 500 دينار وانتهت قضيته دون أن يؤدي الخدمة العسكرية؟!

وفي حدث آخر خلال الفترة نفسها تقريبا، كنت أتابع أحد المنتديات الاقتصادية التي تناقش تراجع أسعار النفط والعجز المؤثر في الموازنة العامة للدولة والدور الممكن للقطاع الخاص للمساهمة في حل المشكلة، كان رجل أعمال يتصدر المتحدثين، تكلم عن دور رجال الأعمال وإمكان تطبيق النظام الضريبي بما يتطلبه من شفافية وكشف وانسياب المعلومات، ولكن زميلاً لي متخصصاً في الاقتصاد وشؤون المال كشف لي لاحقاً أن صاحبنا أبو «الشفافية» رفض بشدة الإفصاح عن المركز المالي للموجودات الخارجية للمدينين عند مناقشة قانون المديونيات الصعبة، واستفاد بإسقاط 40 في المئة من مديونيته البالغة ملايين الدنانير، رغم أن ممتلكاته وأرصدته في الخارج عابرة للقارات!

والحدث الأخير هو إعجابي لنائب شاب متدين فاز في الانتخابات في تلك الفترة أيضاً، ورغم الاختلاف في توجهاتنا ،لكن كانت جرأته وقوة طرحه عند مباشرته للعمل النيابي ملفتة لي، وكان أيضا صوتاً مهماً ومعارضاً قوياً في قضايا التجاوزات المالية في قاعة المجلس وخارجها، وفي لجنة المال العام البرلمانية تحديداً، كنت أحترمه رغم الاختلاف الفكري معه، ولكنني صُعقت عندما أطلعني صديق في صحيفة أسبوعية زميلة بعد فترة على وثائق تشير إلى تورطه في استغلال أراضٍ للدولة وبيعها لحساب شركته بأرقام وأرباح فلكية!

هذه عينات من ممارسات أصبحنا نرى نماذج مختلفة منها منذ سنواب وبشكل متواتر، وهي ما أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم، وعندما نكتشفها نتعجب ونتذكر مطلع ذلك الصوت الكويتي الجميل «الله يا عالم المستور»، ولاحقاً وبعد أن نتفكر في الخدعة واختلاف الصورة عن الأصل نفقد أحيانا الثقة بالجميع ونتشاءم من المستقبل، وهي حالة أصبحت سائدة في الكويت، ولن يبددها سوى بزوغ فئة في البلد تحمل مشروعاً إصلاحياً شاملاً يغيّر النهج والممارسة، ويصلح السلوك ويفرز المزيف عن الحقيقي، أهم مقوماته أن يكون القائمون عليه ممن تتطابق صورتهم مع حقيقة أفعالهم.