كان من نصيب أبناء القرن العشرين وما تلاه، أن يشهدوا، في غضون سنوات قليلة نتائج التراكم الهائل لخبرات الإنسان على وجه الأرض منذ بدء الخليقة، حيث اندلقت في بحر خمسة عقود فقط، مئات الآلاف من الاكتشافات والمخترعات التي لم يحظ أهل المعمورة بأي نصيب منها على مدى ملايين السنين!

Ad

غير أن هذا التقدم المشهود في مختلف الميادين، الذي كان من شأنه تحقيق الرفاهية وتلطيف قسوة الحياة، لم يفلح، مع ذلك، في تقليم مخالب الوحش الذي في داخل الإنسان، كما لم ينجح في الارتفاع به من حضيض التفاهة، إلا بمقدار ما توفره حفلة تنكرية من قفازات حريرية للمخالف، أو من مستحضرات تجميل متطورة للتفاهة... وهذا ما نراه جليا في أثناء رحلتنا مع كتاب «تاريخ بلا تفاصيل مضجرة» للكاتب البريطاني «إيان كروفتون»... الذي يلتقط لنا خلال الرحلة أحداثا متعددة مرت بحياة «وحشنا» الأزلي، منذ العصور السحيقة حتى السنوات الأولى من ألفيتنا الثالثة، في شتى المجالات.

ففي مجال العسكرية الذي استبدل الوحش فيه مخالبه بالأسلحة الأتوماتيكية، يأتينا خبر من عام 1978، حيث وقع انقلاب في أفغانستان، قتل خلاله الرئيس «محمد داوود خان» رميا بالرصاص. غير أن الحكومة الجديدة، فضلت على هذه الحقيقة البسيطة والعارية، أن تعلن للناس أن الرئيس «استقال لأسباب صحية»!

وذلك يعني أن وحشنا الذي يتميز عن الوحوش الأدنى بكونه يقتل لوجه القتل، لا من أجل أن يأكل، يتميز عنها بكونه «يتبل» جريمته بالأكاذيب التي لا ضرورة لها! ومثلما اخترع الإنسان ورقة صغيرة للاقتراع كبديل عن سلاح الغلبة، فإنه طور أيضا طريقة سلمية للتخلص من فائض طاقة العنف سماها «الرياضة»... التي قد يستشيط الخاسر فيها غضبا، لكنه لا يملك في آخر الأمر أن يصافح منافسه الفائز.

وأشهر صورة تجلت فيها هذه الطريقة هي لعبة كرة القدم، التي يسدد فيها المتحاربون كرة من المطاط بدلا من القنبلة، إلى هدف من الخيوط المشبكة بدلا من المدن العامرة بأهلها.

لكن قانون «الروح الرياضية» لم يكن مستيقظا على الدوام، بل كانت تأخذه غفوة أحيانا، فتتسرب من بين يدي غفلته، نسخ الحروب الدموية، بصورة لا يخفف من آثارها أن تُدعى «حروبا كروية»... ولنا مثل على هذا مما حصل في عام 1969.

ففي الرابع عشر من يوليو لذلك العام، غزت دولة السلفادور جارتها هندوراس. ولقد كان التوتر قائما منذ زمن بين الدولتين، لكن انفجاره على هذا النحو الفظيع كان بسبب تصفيات كأس العالم للسنة التالية، حيث تواجه فريقا الدولتين في الملعب، ولأن اللعب كان عنفا خالصا، فقد خسرت السلفادور.

وبأعقاب هذه النتيجة، انتحرت واحدة من فتيات السلفادور، فأعلنت الدولة «حدادا رسميا عاما» حزنا على تلك الفتاة ذات الروح الوطنية العالية!

لكن السلفادور سرعان ما فازت في مباراة الإياب على أرضها... فكان من نتيجة انهيار معنويات الهندوراسيين وشعورهم بالعار، أن رفعت سلطات هندوراس على سارياتها «خرقا بالية وقذرة» بدلا من علم البلاد!

وفي اليوم السابع والعشرين من يونيو فازت السلفادور بالمباراة الفاصلة، فأعلنت هندوراس، في اليوم نفسه، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع جارتها!

وبعد أسبوعين من ذلك قصفت طائرات السلفادور أهدافا عدة في أراضي هندوراس، بينما كانت قواتها البرية تجتاز حدود الجارة، لتحتل عاصمتها الإقليمية... ولم يتوقف تقدم القوات السلفادورية إلا بعد نفاد الوقود والعتاد.

وفي منتصف يوليو استطاعت منظمة الدول الأميركية التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين الجارتين... لكن اتفاقية السلام بينهما لم توقع إلا بعد أكثر من عشرة أعوام من ذلك التاريخ!

أكاد أسمع صوت عمنا «يوسف وهبي بك» يطن في أذني: (ما الدنيا إلا «مسلخ» كبير)!

ولعلنا جميعا نتذكر كيف قتل نجم الكرة الكولومبي الشاب «أسكوبار»، عندما سجل هدفا بالخطأ في مرمى فريقه، فأخرجه من تصفيات كأس العالم التي كان مرشحا قويا للفوز فيها!

لكن ذلك، لحسن الحظ، لم يكن مصير مدافع فريق أستون فيلا البريطاني «كريس نيكول» الذي سجل في مباراة فريقه مع فريق ليستر عام 1976، أربعة أهداف رائعة.. كان اثنان منها قد استقرا في مرمى فريقه!

ولعل نجاته كانت بسبب من كون المباراة محلية، ومن كونه قد حقق التعادل لفريقه، على الأقل!

وفي هذا السياق تعاودني ذكرى من صباي المبكر، بطلها «هويشم» قائد فريقنا في محلة الأصمعي، الذي كان قصيرا جدا وممتلئا ومشعرا، ويتقلب في الساحة مثل القنفذ، ولولا شعره الكثيف لما أمكننا أن نميز بينه وبين الكرة التي تتدحرج أمامه.

ففي واحدة من مبارياتنا، سجل «هويشم» بجدارة لا يحسد عليها ثلاثة أهداف... في مرمانا، بعد أن كنا متقدمين على الفريق الآخر بهدف واحد، ثم ما لبث في النهاية أن مشى مطأطئا ببطء وانكسار مثل يتيم في صبيحة يوم العيد، ليواجه رئيس فريقنا المذهول قائلا: «عيني لا تزعل... قدر وصار»!

ذلك حدث لم يسجله التاريخ بالطبع، ليس لأننا كنا في منطقة نائية عن نظره، بل لأن أقلامه كانت ستنكسر جميعا قبل أن يبلغ نهاية أحداثنا المماثلة على كل صعيد... فمنذ ذلك الحين وحتى اليوم، ظلت «أقدارنا» كلها «تصير» على المنوال نفسه بأيدي وأقدام «قادتنا» الملهمين، في قادسياتهم أو ملاحمهم أو صولاتهم، حيث يسجلون الأهداف في مرمى صدورنا وهم ممسكون بتلابيب «القضاء والقدر»، وحيث لا يعترفون بأننا مقتولون بأيديهم، بل يعلنون على الدوام أننا استقلنا من الحياة لأسباب «صحية» كحال أخينا داوود خان!

دعك من ذلك، فهناك خبر من عام 1997، يمتزج فيه الفن بالأسطورة، وهو مما أدخله «كروفتون» في باب المفارقة التاريخية: يقول إنه في ذلك العام التقت مغنيات فرقة «سبايس غيرلز» البريطانية الزعيم الوطني الأفريقي «نيلسون مانديلا». وخلال ذلك اللقاء صرح مانديلا، بوضوح تام خال من أي مسحة سخرية أو تهكم: «هذه واحدة من أعظم اللحظات في حياتي»!

ذلك هو شعور أسطورة عصرنا التي تمشي على قدمين، عندما واجه فقاعة «سبايس غيرلز»، وهو أمر يدعونا إلى التفكر في أن التواضع الجم هذا من شخصية هائلة العظمة مثل مانديلا، وربما كان جزءا أصيلا من مكونات أسطورته الحية.

مهلا... هناك ما هو أدهى، وهو خبر يتعلق بالكتاب والقراءة سجله الكاتب تحت عنوان «ولادة النشر الشوارعي»:

في مارس من عام 2006، ظهر تقرير يقول إن لاعب كرة القدم الإنكليزي واين روني «20 عاما» وقع عقدا مع دار «هاربر كولنز» يتقاضى بموجبه مبلغ خمسة ملايين جنيه إسترليني، مقابل نشر خمسة أجزاء من سيرته الذاتية!

يقول «كروفتون»: من الصعب معرفة الكيفية التي سيجد فيها هذا «الولد» نصف مليون مفردة أو نحو ذلك، مما يتطلبه ملء هذا العدد الكبير من صفحات سيرته الذاتية، إذا علمنا أن أغلبية الكلمات التي يعرفها تبدأ عادة بالحرف (F)، مثل: (You f..ing) وهي شتيمة فاقعة لابد له من وضعها في بداية كل جملة ووسطها ونهايتها!

وإذا كانت مذكرات «سير ونستون تشرتشل» عن الحرب العالمية الثانية قد استغرقت ستة أجزاء، فعلينا أن نعترف بأن طموح روني يبدو متواضعا نسبيا!

لكن روني يقول: «آمل أن تتضمن سيرتي الكثير من الأشياء الجديرة بالقراءة»... هذا وهو ابن عشرين لا يتكلم عادة إلا بقدمه، وإذا حاول أن يستخدم لسانه وقفت في بلعومه تلك الكلمات المبتدئة بذلك الحرف اللعين!

بعد ثلاثة أشهر، وقعت دار عملاقة أخرى هي «راندوم هاوس» عقدا بمبلغ ثلاثمئة ألف جنيه مع الشهيرة المزيفة «شانتيل» التي فازت عام 2006 بلقب مسابقة البرنامج التلفزيوني «الأخ الأكبر للمشاهير». لكن ذلك المبلغ لا يعد قليلا، إذا علمنا أن سيرة شانتيل ستصدر في جزء واحد فقط.

موقع «شانتيل» الشخصي على الإنترنت تضمن مجموعة من تعليقات المعجبين بها... وفي ما يلي نموذجان من هذه التعليقات، سأحاول جهد طاقتي أن أترجمهما بما يكافئ الأصل التافه إملاء وتعبيراً، كما ورد في النص الإنكليزي.

كتب أحد المعجبين: «أعقد أنها سف تكب سرة ماكد، لكن لا عقد أني سف أقروه، لني ما أقر كاب بحايتي)! وأعود لترجمة تلك الترجمة ثانية إلى العربية: «أعتقد أنها سوف تكتب سيرة بالتأكيد، لكنني لا أعتقد أنني سأقرؤها، لأني لم أقرأ كتابا في حياتي».

وهناك معجب آخر كتب رأيه باختصار يغني اللبيب عن كتب الأغاريب: «القروه شي للنس الموثقافن التفها» وترجمة ذلك للعربية هي: «القراءة شيء يهتم به المثقفون التافهون»!

الحكاية لم تنته... ففي أواخر مايو من العام نفسه، وقعت دار «هاربر كولنز» عقدا مع صديقة روني المذكور آنفا «كولين ماكلفلين» التي قالت: إن كتابي «أهلا بكم في عالمي» سيتضمن كثيرا من صور الأزياء، وعليه فإنه سيكون مقروءا بسهولة، أي أنه لن يكون مجرد كلمات، كلمات، كلمات!

ذلك يحدث في زماننا الرائع. وأين؟ في بريطانيا العظمى ذات التاريخ العريق في مجال النشر والقراءة. ولعل في هذا ما يخفف من وطأة الحزن والحرقة الضاغطة على قلوب أساتذتنا الأفاضل، وهم يرون لغتنا الجميلة تقتل كل ساعة على أيدي أجيالنا الطالعة المدخرة للمستقبل الوضاء!

إنها العولمة يا جماعة. وعليه فإننا ينبغي أن نسلم، بكل ما لدينا من روح رياضية، بأن «الغلاء» هو ليس وحده الذي أصبح عالميا... بل «الغباء» أيضا بكل لواحقه ومشتقاته!

* شاعر عراقي  تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية.