الأكثر انغلاقا الأقل أخلاقا
يكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن تفاقم أزمة الأخلاق لا سيما في مجتمعاتنا «المحافظة» المنغلقة. والحديث عن الأخلاق متشعب ومعقد ومتداخل. ولسنا هنا بصدد بحث النظريات الأخلاقية المختلفة، ولكن ما يهمنا هو إلقاء نظرة عاجلة على جدلية الخير والشر، فهما محور السلوك الأخلاقي. وتجدر الاشارة هنا إلى أن مفاهيم الخير والشر تختلف حسب معطيات البيئة الاجتماعية، فالأخلاق كما يعرِّفها كثير من الفلاسفة هي نسبية اجتماعية تستمد مدلولاتها القيمية من عادات وتقاليد الواقع المعاش. فما هو أخلاقي في هذا المجتمع قد يكون غير أخلاقي في مجتمع آخر والعكس صحيح. ويعد الفيلسوف الجاحظ،، خير شارح لهذه الجدلية الأزلية، وبرغم اختلاف الزمان والمكان، فإن المجتمع الذي عايشه الجاحظ، المجتمع العباسي، يشبه ما نعيشه اليوم حيث المبالغة والتطرف في الترف والبذخ والاستهلاك والفساد، بالإضافة إلى التشابه في التركيبة الذهنية، فيما يتعلق بذهنية التكفير والاضطهاد والاستبداد، رغم فارق أكثر من 1000 سنة. يعرِّف الجاحظ الخير، أنه اعتدال بين «تطرفي الإفراط والتفريط»، وهي، بالمناسبة، نظرية مشابهة للنظرية الأخلاقية عند أرسطو، فيقول الجاحظ: «الافراط في الجود يوجب التبذير، الافراط في التواضع يوجب المذلة، والافراط في الكبر يدعو إلى مقت الخاصة...». وبالرغم من تأكيد الجاحظ على فضائل مظاهر الخير على الفرد والمجتمع، فإنه يرى أن الشر ضرورة وجودية. فوجود الخير يلزم وجود الشر، وانعدامه، كما يرغب بعض الناس ويتمنى، ليس من مصلحة البشر لأنه، كما يقول الجاحظ: «لو كان الشر صرفا هلك الخلق، أو كان الخير محضا سقطت المحنة وتقطعت أسباب الفكرة. ومع عدم وجود الفكرة يكون عدم الحكمة».
لم يقصد الجاحظ الدفاع عن الشر أو الدعوة له، بل على العكس من ذلك، لكنه يقر أن بوجود المتناقضات يصبح للإنسانية قيمة ومعنى من خلال حرية الاختيار والتمييز بين الصالح والطالح، المعرفة والجهل، المنفعة والمضرة، الشك واليقين وغيرها من ثنائيات الوجود، التي لن يكون لها وجود من دون بعضها الآخر. فكيف للإنسان أن يتميز بأخلاقه ويختار الخير إن لم يكن هناك شر؟ إن ما نريد توكيده هنا أن الأخلاق لا تتحقق إلا بشروطها الأساسية؛ وهي حرية الاختيار والمعرفة التي تعتمد على العقل لا الخرافة والأساطير وتجذر النزعة الإنسانية في الوجدان والضمير. فانعدام هذه الشروط هو سبب الانحطاط الأخلاقي الذي تعانيه مجتمعاتنا. وعلى الرغم من المحاولات اليائسة لتحويل البشر جميعهم في هذه المجتمعات المنغلقة إلى أناس تؤمن وتقول وتلبس ما يُفرض عليها، فإننا نرى في المقابل تطرفا في رد الفعل. وعلى سبيل المثال لا الحصر، تؤكد الدكتورة أنعام الربوعي، رئيسة قسم جراحة الأطفال في مستشفى القوات المسلحة في إحدى الدول المنغلقة المجاورة، أن المستشفى تستقبل أسبوعيا متوسط 3 حالات اعتداء جنسي وضرب أطفال، محذرة من ارتفاع في هذه الحالات في السنوات المقبلة. وما هذه الإحصاءات، وغيرها، إلا دليل واضح على حقيقة أن التطرف «يمينا أو يسارا» لا يؤدي إلا إلى تطرف معاكس وبالتالي انحلال وانحدار وانحطاط أخلاقي. نحن أمة تُكثر من التنظير التجريدي للأخلاق المطلقة على الرغم من فشل مؤسساتنا الذريع في تأسيس وعي أخلاقي يرتكز على الإنسان كقيمة أساسية له. فعيب منظرين الأخلاق لدينا يكمن في عدم قدرتهم على تجاوز الجانب النظري الفارغ إلى واقع عملي ملموس. وعيب أخلاقياتنا النظرية أنها نظريات عديمة الجدوى لا تجني إلا تناقضا مريعا وازدواجية فاقعة في واقعنا المعاش. والنتيجة هي مجتمع أكثر انغلاقا وأقل أخلاقا، فالمظاهر غير الأخلاقية أصبحت سمة أساسية من سمات المجتمع المنغلق، بعكس ما يروج له البعض أنها مظاهر دخيلة على المجتمع.