دراويش الاقتصاد... على رسلكم
يعيش دراويش الاقتصاد هذه الأيام حالة من الفرح العامر والابتهاج الغامر لما يسمونه، خداعا وتضليلا، «سقوط الرأسمالية» مبشرين بالاقتصاد الإسلامي الذي سيكون الحل الأنجع للأزمة الاقتصادية الراهنة، جاهلين بحقيقة أن الاقتصاد الإسلامي في الأساس هو اقتصاد رأسمالي يعتمد على الملكية الفردية، وأن آليات الربح والخسارة في المؤسسات الإسلامية من إجارة ومضاربة ومرابحة تتضمّن جميعها، في الواقع، دفع فوائد مخفية غير معلنة. والأدهى من ذلك أن هؤلاء المتشفين والمتشمتين يتجاهلون أن المؤسسات الإسلامية لم تسلم من هذه الأزمة (وما استنجادهم بالبنك المركزي إلا دليل ساطع على ذلك)، ويتناسون أننا سنتأثر لا محالة تأثرا مباشرا بهذا الكساد العالمي، لا سيما في ظل هبوط سعر برميل النفط، خصوصا أن جزءا كبيرا من فوائض النفط- التي فشلنا في استخدامها في التحديث والتنمية- مستثمرة في الأسواق الأوروبية والأميركية، لذا فإننا - والعالم أجمع- حتما لن نكون بمنأى عن تداعيات هذه الأزمة، مهما هون المسؤولون من تأثيرها علينا. إن ما يدعو إلى الحيرة والتعجب أن هؤلاء المهللين والمطبلين والراقصين على وهم تبشيراتهم لا يملكون في الحقيقة أي مشروع متكامل «واقعي» كبديل لهذا النظام الذي يدعون سقوطه.وحديثنا هذا يقودنا إلى إلقاء نظرة عاجلة على التحولات التاريخية في مفهوم الرأسمالية، حيث برزت هذه الرأسمالية في أواخر القرن الثامن عشر، من خلال فلسفة آدم سميث لحرية الاقتصاد المطلقة دون تقييد أو تدخل من الدولة، التي تمثلت بالشعار «دعه يعمل... دعه يمر» «واليد الخفية» للاقتصاد الحر الذي يصلح ذاته بذاته من خلال قوانين العرض والطلب. ولكن أدت هذه الفلسفة في الثلاثينيات من القرن المنصرم إلى تداعيات سلبية كثيرة في أميركا كانتشار الفقر واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء وتدني أوضاع الطبقة العمالية والبطالة الأمر الذي أدى إلى الركود الاقتصادي الشهير بسبب انهيار بورصة وول ستريت عام 1929. وحينها راجع الليبراليون فلسفتهم، فالرأسمالية الصرفة لم تجلب لهم دولة الرفاه المنشودة. وأدرك الليبراليون أن الحل لهذه الأزمة يكمن في أن الرقابة الحكومية الضابطة للاقتصاد ستضمن الحد الأدنى من الرفاهية والمساواة والعدالة الاجتماعية من خلال قوانين الحد الأدنى من الأجور والتأمين الصحي والمعونات الاجتماعية للعاطلين عن العمل ورعاية الطفولة وكبار السن والمحتاجين، وبذلك تغير مفهوم الليبرالية الاقتصادية من خلال دمج فلسفتي الرأسمالية والاشتراكية الاقتصادية لتتجنب التطرف المدمر لكلتا النظريتين اللتين إن طبقتا بشكل صرف فلن تحققا الأمن والعدل الاجتماعي ولن تخففا من المعاناة الإنسانية، وهو ما تتبناه الدول الأوروبية التي تحاول تعزيز الطريق الوسط الذي تسميه بالاشتراكية الديمقراطية التي تخدم في الأساس الطبقة الوسطى «المحرك الأساسي لتقدم الشعوب».
ولهذا لابد من الاعتراف بأن الأزمة المالية الراهنة كان سببها الرأسمالية الشرسة وسياسة المحافظين الجدد الفاشلة في إدارة الاقتصاد وضعف رقابتها وضوابطها القانونية، وأن حل هذه الأزمة سيعزز من جديد فكرة تدخل الدولة في الاقتصاد وشراء حصص مؤثرة لتطرح الحكومة لاحقا برنامج خصخصة هذه المؤسسات حين يتعافى السوق... وهكذا دواليك.ورغم أن ما يحدث حاليا هو تكرار لنفس الأزمة... ورغم تعافي الدول التي عانت هذه الكوارث مثل الولايات المتحدة في الثلاثينيات والسبعينيات والكويت (أزمة المناخ) في الثمانينيات من القرن الماضي بسبب تدخل الدولة... ورغم أن الحكومات بدأت بنفس الحل للأزمة الراهنة، وهو تدخلها لشراء ديون المؤسسات حتى تحقق توازنا في السوق، ورغم أن حالات الرخاء والركود هي دورات طبيعية للاقتصاد الرأسمالي، فإن القوى المتزمتة لا تزال تشطح بفكرها وتبالغ وتتطرف في تحليلها للأمور وتفسيرها لانهيار الرأسمالية.نعم سقطت رأسمالية المحافظين الجدد التي عززت ثقافة الديون والاستهلاك بشكلها الجشع وغير المقيد... لكن رأسمالية أوباما الرشيدة تحمل بذور النجاح في حال وصل الليبراليون إلى سدة الحكم وحققوا وعودهم في إحلال قيم العدالة الاجتماعية والحرية والتنمية المستدامة وإخضاع المؤسسات المالية لرقابة صارمة لتستعيد قطاعات الإنتاج الحقيقي كالصناعة والزراعة والقطاعات الإنتاجية الأخرى عافيتها، بدلا من إغراق الاقتصاد في المضاربات والمقامرات كما هو حادث الآن. وإذا كان من درسٍ مستفاد من التجارب الاقتصادية التاريخية فهو فشل التطرف، سواء أقصى اليمين أو أقصى الشمال، في إيجاد حلول ناجعة أو معقولة للمعاناة الإنسانية.