في هذه الحلقة يحدثنا عاصم عبدالماجد عن غلو «القاعدة» في الجهاد، وهو الغلو الذي قادها -كما يرى عبدالماجد- إلى الوقوع في فخ الحادي عشر من سبتمبر الذي ما زالت تتخبط فيه حتى اليوم، ويؤكد أنها كلما حاولت الخروج من الفخ عبر المزيد من الغلو ازداد إحكام الفخ عليها.

Ad

ويناقش عاصم عبدالماجد عبر أرضية فقهية عواقب الغلو في الجهاد ويفند أسانيد «القاعدة» في هذا المجال.

الجريدة

من المعلوم أن «القاعدة» مهتمة بأمر الجهاد سواء قبل الحادي عشر من سبتمبر أو بعده، وهي تراه بحق ذروة سنام الإسلام، وقد نشأت «القاعدة» نفسها كتنظيم داخل طاحونة الجهاد الأفغاني، وشاركت في هذا الجهاد مشاركة محمودة تحسب إن شاء الله لها... وقدمت، كما قدم غيرها من الحركات الإسلامية أفغانية وغير أفغانية، كثيرين من أبنائها ممن نحسبهم شهداء عند ربهم يرزقون. وقد كلل هذا الجهاد بنجاح فائق ليس في تحرير أفغانستان فحسب، بل في التعجيل بانهيار الاتحاد السوفييتي الذي أدى إلى تفكيك المعسكر الشرقي بأسره.

لذا كان من الطبيعي أن تولي «القاعدة» الجهاد اهتماماً كبيراً، لكن هذا الاهتمام المتزايد تحول إلى غلو من دون أن يشعر القائمون على التنظيم بذلك، وقد غطى هذا الغلو رؤيتهم لحقائق الواقع. فلم يلتفتوا إلى أن سقوط الاتحاد السوفييتي قد أدى إلى ظهور معادلة جديدة تختلف كل الاختلاف عن تلك التي كانت قائمة والتي وفرت الظرف المناسب تماماً لنجاح الجهاد الأفغاني وبلوغه آماله ونهايته المحمودة.

أفغانستان ضحية

لم تبصر «القاعدة» هذه الحقائق الجديدة وسارت في طريق الغلو في الجهاد، فلم تجد أفضل من الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية، لتوجه إليها سهام جهادها أو سهام غلوها في الجهاد فسارت بقدميها إلى فخ الحادي عشر من سبتمبر الذي مازالت تتخبط فيه حتى اليوم، وكلما حاولت الخروج منه -عبر مزيد من الغلو في الجهاد- زاد إحكام الفخ عليها.

وقد كان أول ثمرات هذا الغلو ضياع دولة أفغانستان، وهكذا ضاعت ثمرة الجهاد الصحيح بسبب مجاوزة الحد في استعمال القتال، وهذا هو الغلو الذي وقعوا فيه.

والغلو في أي أمر من الأمور -ولو كان طاعة أو عبادة- ليس محموداً، لأنه عبارة عن تجاوز الحد الممدوح شرعاً أو المأذون فيه، وقد أنكر رسولنا -صلى الله عليه وسلم- على من قال: أصوم ولا أفطر، ومن قال: أقوم الليل ولا أرقد، ومن قال: أعتزل النساء، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني».

فمن التزم الهدي النبوي وعلم سُنّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وطريقته ثم عمل بها فقد أصاب، ومن عمد إلى بعض الهدي النبوي فعمل به وهجر بعضه الآخر فقد غالى في ناحية وقصّر في ناحية، وهذا ما وقع فيه إخواننا في «القاعدة» من دون أن يشعروا. ولو أنهم التزموا الهدي النبوي كاملاً غير منقوص -كما سيأتي بيانه- لمضوا في القتال حيث يكون محققاً للمقصود ولامتنعوا عنه حيث يكون محققاً لعكس ذلك.

فقد شرّع الله ورسوله لنا بجوار الجهاد الصبر والصفح والعفو، وشرعا لنا أيضاً الصلح والعهد، وشرعا لنا كذلك الهجرة، كما شرعا العزلة، وجعلا لكل واحد من ذلك مجاله ومكانه وزمانه بحيث يكون العمل به آنذاك محققاً لمقصود الشرع، فلم يجعلا الجهاد والقتال هو الطريق الأوحد والأسلوب الأمثل لتعاملنا مع غيرنا من الأمم دائماً وأبداً، بل أباح الله ورسوله من ذلك ما اقتضته المصلحة العليا للدين والأمة، أما حيث تكون تلك المصالح لا تتحقق بالقتال أو كان القتال مضيعاً لها فلا يكون مباحاً ولا مشروعاً ولا يكون عندئذ ذروة سنام الإسلام بل لا يكون من هدي خير الأنام.

الأذى الأميركي

لكن الغلو يدفع «القاعدة» بعيداً ليجعلها رافضة إلا أن يكون الجهاد هو الحل الأوحد لكل موقف، وهو العلاج الناجع لكل أزمة، وهو الفرض المشروع في كل زمان ومكان وعصر وأوان بغض النظر عن أي شيء آخر، وهي بذلك تعْرض عن بعض هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي لا تشعر. وليت شعري لماذا شرع الصبر والصفح والصلح والعهد والهجرة والعزلة ونحوها إن لم يُستعمل كل منها في أوانه ومكانه المناسبين؟!

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «من كان بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف، فليعمل بآية الصفح والعفو» ومثل هذا قاله ابن حجر، وقاله أيضاً الزركشي ونقله عن السيوطي وأقره عليه.

وإذا كانت «القاعدة» تشكو قبل شروعها في مهاجمة الأهداف الأميركية حول العالم أن المخابرات الأميركية قد اعتقلت أفراداً معدودين من أعضائها وقامت بتسليمهم إلى دولهم حيث تعرضوا لمحاكمات قاسية، فإن «غزوة مانهاتن» لم تكن هي الحل بغض النظر هنا عن مدى مشروعيتها. بل لقد أدت إلى مضاعفة المشكلة أضعافاً مضاعفة فامتد أذى الأميركيين إلى مئات الآلاف وربما الملايين بعد أن كان محصوراً بعدة أفراد، أفلم يكن الصبر في مثل هذا الموطن أولى أو لم يكن أقرب إلى تقليل المفاسد والخسائر؟

ظلم الدين

هذا مجرد مثال لما يسببه إهمال بعض الهدي النبوي حيث كان يجب إعماله. فقد أدى إهمال الصبر والإعراض عنه كجزء من الهدي النبوي الذي شرعه الله لرسوله وعلّمه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأمته والتزمه هو وأصحابه طويلاً في مجابهة ما نزل بهم

من أذى وابتلاءات، أدى هذا الإهمال والإعراض إلى إضاعة مصالح مشروعة وزيادة مفاسد محذورة، ولا ينفع هنا الاحتجاج بأن من أعرض عن الصبر فقد لجأ إلى الجهاد وهو الآخر من هدي

النبي -صلى الله عليه وسلم- لأننا نقول: إن لكل منهما مكانه المناسب، ولم يضع رسولنا صلى الله عليه وسلم هذا مكان هذا، حاشاه -صلى الله عليه وسلم- فمن فعل ذلك فهو مخالف لهدي رسولنا صلى الله عليه وسلم.

ومن كان له حس فقهي إذا تأمل في سيرة نبينا -صلى الله عليه وسلم- أدرك ما قلناه بأيسر نظر، ولم تشتبه عليه الأمور ولم يصعب عليه معرفة دلالات النصوص. فإنه من المعلوم أن النصوص الحاكمة لعلاقة أهل الإيمان بغيرهم من الأمم وأهل الديانات الأخرى قد نزلت على مكث وبتدرج حكيم بالغ الحكمة شديد الحسن، فجاءت ملائمة أحسن ملاءمة لحال المسلمين، كما جاءت مستجيبة أمثل استجابة للتحديات المفروضة عليهم من أعدائهم فكانت المخرج الأعظم والحل الأفضل في كل مرحلة لكل تحدٍ.

وإنه لظلم شديد للدين وللأمة أن نعْرض عن هذه النصوص المتكاملة ونلجأ إلى الاختيار الانتقائي من بينها أو أن نصر على العمل بأحدها كالقتال في كل موطن من دون تفريق بين مقدور عليه وغير مقدور، ولا بين عدو قريب وبعيد، ولا بين عدو وأشد عداوة، ولا بين دار إسلام ودار حرب، ولا بين مشرك وكتابي ومرتد وظالم وفاسق، وتلكم مسألة مهمة تحتاج إلى بسط وبيان لا تحتمله هذه النصيحة العجلى.

موانع القتال

ومن الغلو في الجهاد إغفال التأكد من توفر شروطه وانتفاء موانعه بعد التيقن من قيام سببه، وهي قضية خطيرة تحتاج إلى وقفة تأمل ومزيد اهتمام لا من إخواننا في «القاعدة» فحسب، بل من كل الحركات الإسلامية المقاتلة، أيضا. وقد أدى إهمالها إلى إشعال صراعات مريرة في مناطق عديدة من عالمنا الإسلامي، لم تصب في النهاية في مصلحة الدين والأمة.

ذلك أن وجوب الجهاد كحكم شرعي يحتاج إلى أشياء ثلاثة:

الأول: توفر السبب.

الثاني: تحقق الشرط.

الثالث: انتفاء المانع.

ولا يكفي وجود واحد من هذه الثلاثة حتى يقال: إن الجهاد قد وجب، بل لابد من اجتماع ثلاثتها معاً، فإذا وجد السبب ولم تتحقق الشروط أو وجد السبب وقام المانع فلا يصح أن يقال إن الحكم الشرعي بوجوب الجهاد قد انعقد، بل لا ينعقد ولا يصير الجهاد واجباً حتى تكتمل الأشياء الثلاثة معاً.

لكننا نجد أكثر الخطباء والمصنفين في عصرنا الحالي عن الجهاد يولون أسباب الجهاد اهتماماً عظيماً ولا يفعلون الشيء نفسه مع شروطه أو موانعه حتى نشأت أجيال في الحركة الإسلامية لم تسمع من قبل شيئاً عن موانع القتال رغم أنها -أي الموانع- أولاها الشرع اهتماماً عالياً حتى جعل وجودها وتحققها مبطلاً لأثر السبب، فلا ينعقد الحكم ولو وجد سببه طالما قام مانعه.

استباحة الدم والتترس

ولعل حماسة الشباب وشدة غيرتهم على الدين هي التي دعتهم إلى الوقوف طويلاً أمام أسباب القتال، وهي للأسف متفشية في مشارق الأرض ومغاربها؛ من علو الشرك، ووجود الفتنة، وإيذاء المؤمنين، وغياب شرعة الدين، فأعطوها نصيباً كبيراً من التأمل والحديث والتأليف والتصنيف بحثاً عن حل لها وعلاج من دون أن يولوا شروط الجهاد أو موانعه الاهتمام نفسه.

وقد تفرع عن غلو إخواننا في «القاعدة» في الجهاد أنهم لم يدققوا في ضبط الأحكام الخاصة به، بل عدوا ذلك نوعاً من التخاذل وعدوا من يطالبهم به مخذلاً لا أكثر، فنتج من هذا أخطاء صارخة؛ كالوقوع في الغدر المنهي عنه بقتل المستأمنين، وكاستباحة دماء المسلمين في بلادهم بدعوى «التترس»، وقد تعرضنا لقضية الأمان من قبل وسيأتي إن شاء الله تعالى الحديث عن مسألة «التترس».

وقد هالني كما هال غيري تلكم التبريرات العجيبة التي يقوم بها بعض المحسوبين على «القاعدة» ممن يعد نفسه أو يحسبونه على درجة علمية تؤهله للخوض في هذه المسائل المعضلة، وقد وجدناه كلما تكلم أتى عجباً وقال عجباً، فمن ذلك أنه عندما أنكر المنكرون على «القاعدة» انتهاكها الأمان الذي تعطيه السعودية حكومة أو أفراداً للأجانب، قال ذلك الرجل غريب الأطوار، إن أمان أهل البغي لا يلزم أهل العدل. ثم لما أنكرنا على «القاعدة» قتل المسلمين بدعوى «التترس»، صاح بأنه يجوز قتل المسلمين إذا «تترس» بهم الكفار لإحداث ضرر أو تمرير فتق، وأن تقدير ذلك متروك للمجاهدين، وهذا إغراق في الغلو يريد به فتح الباب على مصراعيه لقتل المسلمين مع المستأمنين... وسيأتي بيان وجه الخلل في قوله هذا قريباً.