مسيحيو العراق بين إبادتين
![صالح بشير](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1488283965408028300/1488283965000/1280x960.jpg)
كما أن الحياد متعذر على الجماعات، ليس لأي منها أن يربأ بنفسه عن الضلوع في نزاع أهلي، شامل بطبيعته جارف. يكون إن فعل كمن يطلب مستحيلا، كمن يعاند منحى حتميا، كمن يتشبث بسلام في وضع أو طور الحربُ ميسمهما الفارق، بل كمن يدين، صامتا بواسطة الإحجام والانكفاء، حالة لا يقرّها فيستعدي الضالعين فيها. عندما شهد التاريخ حالات اضطراب مستشر مماثلة، لم يكن الانفكاك عنها إلا في متناول النُساك، أفرادا أم مجموعات صغيرة، لاذوا بالقفار وبنائي الجبال، تبرؤاً من عالم مجّهم ومجّوه، لفظهم ولفظوه، ولكن مثل رد الفعل ذاك استثناء يندرج في الأقصى، ولا يمكنه إلا أن يكون خيارا ومسلكا فردييْن، لا سبيل إلى توخيهما من قبل فئات سكانية بأسرها، دينية أو إثنية، هي، في نهاية أمرها، عبارة عن «مجتمعات».وذلك ما يكابده، مأساةً، مسيحيو العراق، على ما أبانت في الأيام الأخيرة أحداث مدينة الموصل، وما يلاقيه سكانها من النصارى من تقتيل ومن تهجير قسري، بلغ ضحاياه لحظة كتابة هذه السطور، 1500 عائلة صيّر إلى تشريدها. تصعب نسبة تلك الجرائم إلى طرف بعينه، لوفرة من يمكن الاشتباه بارتكابهم لها: أكرادا يضيقون بآلية الانتخابات في المحافظات، يريدون إيجاد واقع سكاني جديد يتماشى مع ما يعتبرونه مصالحهم، أصوليين يهذون بالفتوحات الكبرى، ويحلمون باستئنافها مخيرين المسيحيين بين دفع الجزية أو الجلاء عن أرض أجدادهم، أو أي طرف آخر قد يخطر على البال. إنه منطق الحرب الأهلية، وقد أضحى شاملا، على ما سبقت الإشارة، وأضحى بصفته تلك لا يتسع لفكرة الحياد. إذ يُفترض في مسيحيي العراق أنهم ليسوا طرفا في نزاعات البلد الأهلية، لا على سبيل العدوان ولا حتى على سبيل رده، ليست لديهم ميلشيات مسلحة ولا ينفردون بخطاب سياسي يميزهم تمييزا ناجزا عن سواهم. ضمروا وجودا، من الناحية السياسية، حتى غدوا فئة «روحية» في المقام الأول، أو يكادون، غير أن كل مواصفاتهم تلك لم تعصمهم من أن يشملهم منطق الحرب الأهلية في أكثر تجلياته قسوة، طالما أنهم يُدرَجون في ذلك المنطق قسرا، ومن موقع الضحية حصرا.مؤدى كل ذلك أن أقلية كتلك ليس لها من حيز أو من موقع في مثل مناخ الحرب الأهلية تلك وبيئتها، وهي لذلك ليست مخيّرة إلا بين إحدى إبادتين: إبادة بالمعنى الحرفي، تقتيلا وتهجيرا واستئصال شأفة، وأخرى رمزية، إن جازت العبارة، هي المتمثلة في هجرة إلى الأقاصي، إلى أميركا أو إلى أستراليا، لا تُرجى بعدها عودة على الأرجح.فظروف الحروب الأهلية لا تتسع إلا إلى المتقاتلين، لا ظلم إلا ذلك الواقع عليهم، ولا جرم إلا ما يُرتكب في حقهم، كل حسب روايته التي يسندها بالحضور وبامتلاك القوة، أما الضحايا الصامتون، صمت السلاح أو صمت السياسة، شأن مسيحيي العراق، فأولئك ضحايا خلّص... مبرمجون للإبادة، بوجهيها الآنفي الذكر، على أي حال.*كاتب تونسي