مصر وإيران: خطوة للأمام... خطوتان للخلف

نشر في 14-12-2008 | 00:00
آخر تحديث 14-12-2008 | 00:00
 ياسر عبد العزيز يمكن تلخيص التصور المصري للعلاقة مع إيران في المثل الشعبي الدارج: «ابعد حبة... تزيد محبة»، فيما يمكن التعبير عن الموقف الإيراني تجاه العلاقة نفسها بالقول السائر: «لا أحبك... ولا أقدر على بعدك»، وعبر المقولتين تتأرجح العلاقات بين هذين البلدين المهمين تأرجحاً عنيفاً؛ فتلامس حدود الاعتدال حيناً، وتغرق في التطرف أحياناً كثيرة.

تنظر مصر إلى إيران على أنها «شر لا بد منه»، فيما ترى طهران أن القاهرة «فرصة ضائعة»، وهما تصوران يعكسان، فيما يعكسان، الكثير من الحقائق الجغرافية والتاريخية والسياسية، كما يترجمان، بدقة معقولة، حال الأوضاع الإقليمية وتقلباتها، وتصور كل من البلدين لنفسه، ودوره، وطبيعة تأثيره، وحدود فعله في الإقليم والعالم.

فالقاهرة في حال الاستكانة، معتمدة الخيار الرائج: «الاستقرار والاستمرار»، تنطلق من واقعية هادئة وتحركات أفقية مسؤولة؛ مُقدرة أن إيران بتمركزها الجغرافي على مشارف الخليج وفي أعصابه، وبجوارها للعراق وفاعليتها فيه، وبامتدادها إلى سورية، ومن ورائها لبنان ففلسطين، حقيقة واقعة ملموسة لا يمكن تجاهلها مهما حصل، وإن كان انخراطها الكامل في الواقع الإقليمي، وتدشين روابط مصلحية معها قابلة للاستمرار والبناء عليها، ثمناً فادحاً لا يمكن الوفاء به.

وطهران في حال الفوران و»البراغماتية الثورية»، معتمدة الأسلوب السائد: «اضغط، وخذ، وطالب»، تنطلق من ذرائعية ملحة وتحركات رأسية محسوبة؛ مُقدرة أن مصر بمحوريتها الإقليمية، وقوتها الناعمة، وعلاقاتها المتجذرة في المشرق العربي والخليج، وفاعليتها التقليدية في الموضوع الفلسطيني، فرصة تاريخية لا يعادل فقدانها بالكامل سوى تكاليف حال العلاقات المائعة القائمة حالياً.

وقد عبرت الدولتان تعبيراً واضحاً، وفي مناسبات عديدة، عن التصور السابق؛ فالرئيس الإيراني أحمدي نجاد يقول بجلاء: «إذا وافقت مصر على تطبيع العلاقات اليوم، فسترسل طهران سفيراً إلى القاهرة غداً»، أما الرئيس المصري حسني مبارك فيبدو أنه مازال يرى أن «الشيعة العرب ولاؤهم لإيران وليس لأوطانهم»، فيما يحذر، على لسان وزير خارجيته أحمد أبو الغيط، من توجيه ضربة عسكرية لإيران على خلفية أزمة برنامجها النووي، مؤكداً حق كل دولة في امتلاك الطاقة النووية، وملمحاً، في الوقت ذاته، إلى دول أخرى في الإقليم «تمتلك السلاح النووي ولا تعلن عن ذلك».

وفيما وافقت طهران على إزالة اسم خالد الإسلامبولي قاتل الرئيس المصري أنور السادات من على أحد شوارعها، في محاولة لترطيب العلاقات بين البلدين، لم تجد القاهرة نفسها في وضع يدفعها لمقابلة الخطوة بخطوة مماثلة، فلم تزل اسم شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي من على أحد شوارعها.

ومنذ قطعت الثورة الإيرانية علاقاتها بمصر في عام 1979، في أعقاب توقيع القاهرة إتفاقية «كامب ديفيد» مع إسرائيل، والعلاقات بين البلدين تسير بمبدأ «خطوة للأمام... وخطوتان للخلف»؛ بحيث أمكن دوماً توقع ذريعة سلبية تلي كل تطور إيجابي، بشكل يضمن عادة توقع تكرار الإشارات الهدّامة في أعقاب كل بارقة بناءة.

في الأسبوع الماضي، طرأ تغير سلبي على العلاقات بين البلدين، كان يمكن أن يمر مروراً عابراً في إطار «الاقتراب بالضغط» الإيراني المحسوب تجاه القاهرة، لكن الأخيرة رأت أن تجعل منه إحدى الذرائع المتبعة في تأجيل الحسم وإبطاء التطور الإيجابي المأمول من قبل طهران. فقد تظاهر مئات من الطلاب الإيرانيين أمام مكتب بعثة رعاية المصالح المصرية في طهران، منددين بما اعتبروه «موقفاً مصرياً سلبياً متواطئاً مع إسرائيل» في تكريس الحصار على غزة، عبر غلق معبر رفح. واتهم المتظاهرون الحكومة المصرية، والرئيس مبارك شخصياً، باتهامات حادة وجارحة، وقد تزامن هذا مع نشر مقالات عديدة في صحف إيرانية مختلفة تتبنى الموقف ذاته، وتوجه انتقادات قاسية بحق مصر وقيادتها.

على أي حال فقد حدث المتوقع تماماً؛ فاستدعت القاهرة القائم بالأعمال في مكتب رعاية المصالح المصرية بطهران، كما استدعت القائم بأعمال مكتب رعاية المصالح الإيرانية بالقاهرة، حيث أبلغه مسؤولون بالخارجية المصرية أن القاهرة «محتجة ومستاءة» من الاستهداف الإيراني عبر التظاهرات والمقالات الصحافية.

ويشير تاريخ التفاعلات بين البلدين، منذ قيام الجمهورية الإسلامية وحتى الآن، إلى أن التطور الأخير لن يخرج بتلك العلاقات عن مسارها الراهن: «لا عداء واضحاً، ولا قطيعة تامة، ولا علاقات طبيعية»، كما يرجح أن القاهرة قد وجدت الذريعة اللحظية التي ستمكنها من إيقاف أي تطور إيجابي في تسريع وتيرة التئام العلاقات الثنائية مع طهران.

مصرياً؛ لا تجد القاهرة أي مغريات في الذهاب إلى تطبيع العلاقات مع طهران؛ إذ لا يصبح هذا التطبيع مصلحة مصرية إلا في حال تأزمت علاقات القاهرة مع الولايات المتحدة بشدة أو تلقت تهديدات سافرة من إسرائيل أو ساءت علاقاتها بالخليج إلى درجة قياسية.

إيرانياً؛ مازالت مصر مصلحة واضحة لطهران يمكن أن تساعدها في تعزيز مشروعها الإقليمي، وترفع ضغوطاً كثيرة من على حلفائها في منطقة الهلال الخصيب، وتفتح لها آفاقاً في إفريقيا، وتسهل لها تحقيق اختراقات واسعة في الخليج.

فيما يتعلق بالغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة تحديداً، فكل خطوة مصرية باتجاه إيران لن تكون مجرد خصم واضح من رصيد القاهرة في الميدان الدولي، ولكنها أيضاً ستكون بداية لتوتر يضع مصر في دائرة التربص وربما الاستهداف.

وفيما يتعلق بدول الخليج العربية؛ فإن قلقاً كبيراً سينشأ في حال طبّعت القاهرة علاقاتها بطهران، حتى ولو كانت العلاقات الخليجية- الإيرانية في طور التفاهم والود وتبادل المصالح الظاهرة.

لن يكون خبر «تراجع العلاقات بين القاهرة وطهران عبر عثرة جديدة» سوى أحد الأخبار المكررة فاقدة الزخم والأهمية... الخبر الفارق، الذي سيفجر التداعيات ويتصدر الصفحات الأولى والشاشات، سيكون عن تطبيع تلك العلاقات، وهو يبدو أعز من خيال على أي حال.

* كاتب مصري

back to top