الاختلاف صفة كونية وحالة إنسانية وضرورة حياتية للاستمرار والتطور والنهوض، فمن خلاله تُعرف الأشياء وتُكشف الحقائق ويتبلور الإبداع... وهذا يتأتى كله من التنوع والتعدد المكونين للمجتمعات بما يحملانه من غنى ثقافي وحضاري، الذي يعتبر المغذي الأهم لحيوية الأمم وتفاعلها الإنساني، وأيضا يعتبر العامل الأقوى لنمو المجتمعات ورقيها، إلى جانب الوعي بثقافة الاختلاف وضرورة التعايش مع هذه الفطرة وامتصاص إفرازاتها، والتي من دونها لا يمكن للشعوب أن تنهض وأن تتقدم بمشروعها التنموي، ولا أن تمضي مطمئنة لحاضرها ولا لمستقبلها.
والعالم الثالث خير نموذج لغياب ثقافة الاختلاف، حيث الفرقة والصراعات ومحق الآخر، والحصيلة وفرة في التخلف وتراكم في الجهل، رغم عظمة الرسالات السماوية وثراء المنتوج الفكري للأمم.الرؤية الدينية للآخر، كما ألفناها من التيار الديني عموما، تتسم بطابع شمولي بحت، ولم نرَ تيارا للوسطية سوى أطروحات إكليروس السلطة المحكوم بأدبياتها والمشرعن لخطواتها والمكفر لآثامها والداعي إلى اندماج الجميع تحت مظلة الوطن، ولكن ليس من خلال حوار وطني يجمع أطياف المجتمع كلها ويزيل من خلاله أي شوائب تعتري العيش والمصير المشتركين، ويُؤسس من خلاله أيضا لعقد اجتماعي يكون اللبنة الصلبة للبناء والإبداع... وإنما من خلال أدوات السلطة الأمنية المناط بها المهام الوسطية، بل والكلية التي تخشى النزف حتى من خدش، لكي لا تغرق فيه، لأنها تعي جيدا مقدار نقص الصفائح في النجيع الوطني والقابل للنزف، حتى من دون لمس، ولذلك فهي تسعى دائما إلى توسعة هذا الإكليروس وتغذيته بالإغراءات كلها حتى تضمن وسطيته حرصا على المصلحة العليا، لأن المسألة الدينية هي الخيط الأخطر في النسيج الاجتماعي والمقلق الأكبر للسلطة.الوسطية والاعتدال المتمثلان غالبا بتيار السلطة، هما النموذج المتوافر للتداول في ظل حال الانسداد القائمة في واقعنا العربي... وسنأخذ بايجابية واهتمام ما قاله سماحة مفتي سورية عن الانفتاح والتسامح والعلاقة مع الآخر، انطلاقا من قيم الإسلام السمحة لوفد جمعية الإمام النوري للأبحاث الإسلامية في أميركا، إذ قال «إن المسلم في عقيدتي.. والعربي في مصحفي.. والعالمي في إنسانيتي.. والسني في قدوتي.. والشيعي في حبي وولائي.. والسلفي في جذوري وانتمائي.. والصوفي في حبي ونقائي». حقا إنه تعبير عن قيم الإسلام السمحة، بل ورؤية عصرية وعالمية.. ووصفة ناجعة لوأد الطائفية ونبذ عوامل الفرقة والتخلف التي جعلت من المسيحي خصما.. ومن الشيعي عدوا.. ومن الصوفي شركا.. ومن العروبة إثما.. ومن الغلو لـ«الفرقة المنصورة».. ومن الإسلام حلبة للصراع ومرقدا للدفن... ولكن ما لم يذكره سماحة المفتي كيف لنا أن نتمثل هذه القيم العظيمة كلها في ظل حال الانسداد التام لقنوات الوعي والتعبير كلها؟! وهذا مما يزيد الاحتقان ويجعل من الغلو (الثقافة الناجعة للتغيير)، ومن هنا يجب التصويب.. ومن هنا تبدأ المعالجة.قناعة الاستهداف تلزم بالضرورة مراجعة الذات والوقوف على جوانب القصور في الفهم والأداء -رغم الانسداد- والمراجعة الفقهية ضرورة انطلاقا من وصفة سماحة المفتي، عوضا عن اتهام الآخرين بأنهم مصدر الشرور لنا -رغم تربصهم- وأن تخلفنا عن ركب الحضارة هو بسبب الاستهداف المتواصل لنا لأننا أصل الأشياء.. رغم قناعتنا بأن فكرة المراجعة والتقويم الذاتي هي فكرة طوباوية بعض الشيء، لعدم نضوج ظروفها الموضوعية وأرضيتها الأخلاقية، لانعدام المنافذ الصحية وتمادي حال الفساد والإفساد، إلا أنها ضرورة وطنية وشرعية ونفسية.كم جميل أن نرى اعتدالا مؤسساتيا وليد الرحم الديمقراطي يحمل مشروعا وطنيا وبعدا إنسانيا يأخذ بوصفة سماحة المفتي، باعتبارها رؤية شرعية تتسم بالمصداقية وتعكس ثقافة المجتمع.. وليست نتاجا سلطويا بهدف التسويق وإضفاء الشرعية... ولنا في جار الجنب عظة.. فمفتي جمهوريتها كان فقيه العلامة المميزة وعميد المقاومة.. ومع تغير الحال اتجه إلى مذهب آخر «والله غفور رحيم».. وهكذا فإن إفرازات الشمولية ما هي الا مسكنات لتأجيل الاستحقاقات، ولكنها لا تهضم رأيا ولا تحل تناقضا بل على العكس تزيد الحموضة وتوسع التقرحات.نعود ونؤكد، أن الشعور بالمسؤولية تجاه أوطاننا والتي باتت مهددة بمشاريع خطيرة، تحتم علينا كظم الغيظ وتغليب المصلحة الوطنية والقومية على العصبيات والنزعات المذهبية التي باتت تهدد الأوطان أكثر من الأعداء، لأن تناميها يعني تعبيد الطريق لمشاريع الهيمنة والتقسيم... ولنا في العراق درس وفي السودان رسالة ومهانة والبقية تأتي.. فهل نعي الدروس ونصوب باتجاه العدو الحقيقي؟
مقالات
مفتي سورية... رقيٌّ في الطرح... ونقصٌ في التحليل
22-08-2008