إن استقام أمر اتفاق «التهدئة»، الذي تم الوصل إليه بين الدولة العبرية وحركة حماس، ونُفذت بنوده واستمر حتى موفّاه الذي حُدد بأشهر ستة، فسيكون التنظيم الإسلامي الفلسطيني قد تمكن من إدراج ركن من أركان نظرته ومبدأ من مبادئ ايديولوجيته (وهذه تكاد تنحصر لديه، ولدى ما ماثله من حركات الإسلام السياسي، في الفقه) وهو معمول به في القانون الدولي، في ما خص إدارة النزاعات أو حلها.

Ad

فالاتفاق ذاك، وهو لم يشترط اعترافا بين الطرفين المتواجهين ولم يمثل لذلك إحراجاً لحركة حماس، لم ينافِ مفهوم «الهدنة» كما حددها الفقه الإسلامي، لا تنهي صراعاً، مفتوحاً إلى يوم الدين، مع «دار الحرب»، فلا تعدو أن تكون جنوحاً إلى «السلام» مؤقتاً. وهو (أي الاتفاق) قد يكتسب لذلك، في نظر «حماس» ومن يشايعونها إيديولوجيا، سمة النموذج، لتفاوض خيضَ ونال المطلوب منه أو بعضه حسب «المفاهيم الإسلامية» أي من دون بذل ضريبة الاعتراف بالعدو، صحيح أن التفاوض كان حول شأن موضعي بالغ الموضعية، وأن «نموذجيته» المفترضة تلك تظل لذلك محدودة ما لم تُقَس بمعيار النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني برمته، وصحيح أن الاعتراف لم يكن، في هذه الحالة، بالأمر الذي يعني العدوّ ولا هو بالساعي إليه، وهو الحريص كل الحرص على وصم الحركة الإسلامية الفلسطينية بـ«المروق» وبـ«الإرهاب» إمعاناً في نزع كل صفة سياسية عنها، وحشرها في خانة الإجرام الصرف، ولكن يبقى مع ذلك أن المفاوضات التي خاضتها حركة حماس، وإن بالواسطة، قامت على التعاطي مع شأن دولي انطلاقا من مفاهيم فقهية يُفترض أنها بعيدة كل البعد عن القوانين والأعراف الوضعية والحديثة، التي تنظم الحياة الدولية المعاصرة، بما في ذلك في شؤون الحرب والسلام طبعاً.

لا تكاد توجد من سابقة معلومة، من زاوية النظر هذه، لمثل اتفاق «التهدئة» ذاك، وهو، بالمناسبة، قد تجنب أن يتسمى باتفاق «الهدنة»، لأن للمفهوم ذاك تعريفاً محدداً في القول القانوني والسياسي الحديث، إذ يفترض الاعتراف بين الأطراف المتقاتلة، سواء تمثلت الهدنة في وقف للنار إلى أمد معلوم أو استدام، تعليقاً للنزاع إلى درجة الحلول، عملياً، محل اتفاقية السلام، وذلك ما لا تريده، في الحالة التي تخصنا، لا حركة حماس ولا الدولة العبرية، لكن يبقى أن اتفاق «التهدئة» الإسرائيلي-الحماسي الأخير هو في حقيقة أمره اتفاق «هدنة» من الناحية التقنية، وإن لم يكن كذلك من الناحية القانونية.

لا تكاد تُعرف من سابقة إذن، أقله على صعيد المنطقة، عن تعاط مع قضية دولية، انطلاقا من مفهوم «قانوني» تقليدي، أو غير حديث، غريب عن المنظومة الحقوقية الناظمة للحياة الدولية في زمننا هذا، في ما عدا، ربما، تلك التي أرساها العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني، عندما تحجج بالبيعة التي نالها «أميراً للمؤمنين» من شيوخ القبائل الصحراوية، واتخذها عنصراً أساسياً من عناصر شرعية مطالبة بلاده بالسيادة على الصحراء الغربية، عقب انسحاب إسبانيا منها، ترفد وسائل الانضواء والتعاقد الحديثة، من استفتاءات واعتراف دولي وما إليها، وإن لم تستوِ بديلاً عنها.

صحيح أن مفاوضات غير تلك خاضتها حركة حماس، قد جرت، من قِبل قوى تدين بمثل ما يدين به التنظيم الإسلامي الفلسطيني على الصعيد الفقهي، شأن «حزب الله» اللبناني الذي أجرى، وإن بالواسطة، مداولات استبعدت الاعتراف المتبادل هي بدورها، ولكن المداولات تلك، كانت تقنية للغاية، أي لم تكن سياسية، وتعلقت بشأن خصوصي محدد، آني بالغ الآنية ينحصر، في كل مرة، في عملية وحيدة، غير ملزم في ما يقع خارجه، هو مبادلة أسرى بأسرى، أو أسرى بأشلاء جثث جنود إسرائيليين، في حين أن اتفاق «التهدئة» الذي يعنينا هنا (وهو كما أسلفنا اتفاق «هدنة» تقنياً وعملياً) على قدر من شمول، يتعلق بجوانب شتى، من وقف تبادل النيران إلى فتح المعابر إلى رفع الحصار المضروب على قطاع غزة، بعضها فوري التنفيذ وبعضها متعاقب آخذ بعضه برقاب بعض، ما يعني أن اتفاق «التهدئة» ذاك، قد أرسى مساراً، وإن صغيراً وجيزاً محدود المهلة الزمنية، ولكنه يكتسب، لصفاته تلك، سمة سياسية.

هل ستتمكن حركة حماس، وأمر «تهدئتها» مع الدولة العبرية على ما وصفنا، أن تحافظ على «تمايزها القانوني»، أي أن تستدرج إسرائيل في مراحل لاحقة إلى التفاوض، وربما إلى تسوية، كتلك المتمثلة في القبول، أو بالأحرى، في عدم الاعتراض على قيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة في سنة 1967، خالية من المستوطنات وعاصمتها القدس، مع عدم الاعتراف بالدولة العبرية، وفق ما يقتضيه مفهوم الهدنة الإسلامي، أم أن المسار ذاك، إن انخرطت فيه، سيؤول بها حتماً إلى اعتناق المفاهيم الحقوقية الحديثة؟

والحقيقة أن السؤال ذاك أشمل من تلك الحالة العينية الفلسطينية، وقد يتعلق بمسائل شتى، من معالجة النزاعات الدولية إلى المصارف الإسلامية إلى ما إلى ذلك الكثير، شرط إعادة طرحه على النحو التالي: هل يتسع عالمنا هذا، بعد أن تعولم، إلى تقاليد قانونية أخرى، وافدة من خارج المجال الحقوقي الغربي الذي ساد حتى الآن ومنذ أن استتبت الحداثة، وكيف يمكن لذلك أن يتحقق إن كان قابلاً للتحقيق؟

* كاتب تونسي