رسالةٌ في زجاجة
هناك تماسٌّ بالغُ الحساسية بين غِنى المعرفة وغنى التجربة الحية لدى الإنسان، تماسٌّ فاعل وخصبٌ في إنتاج ما نسميه عملاً إبداعياً. القصيدةُ تخرجُ على هيئة كلمات من هذا التماس، ولكن هذا التماس لا يتم إلا بين معرفةٍ وتجربةٍ تنتميان إلى كيانٍ إنسانيّ استثنائي، نسميه الفنانَ أو الشاعر.
تتعرّى شجرةٌ في الخريف، فتُكشفُ للعين أعشاشُ طيور، كانت خفيةً وسطَ الأغصانِ المورقة طوال الربيعِ والصيف، أعشاشٌ تتضافرُ عيدانُها بمهارة حِرفيّ، تتوسط مفتَرَقَ غصن مُتشعّب، بثبات وثقة. الأعشاشُ عارية للبرد والمطر والثلج، ومهجورة لهذه العلّة، ولكن للشاعرِ مجساتٍ داخليةً أخرى غير الحواس التي التقطت المشهد ترى، في مواجهة الأعشاش للطبيعة مشهداً تتزاحمُ فيه التساؤلات ترى شبحاً كابياً للطيور الغائبة، ترى هجراناً في صمت العشِّ العميق، ترى في الشتاء عُدة حرب كاسرةً، ومدينةً مُحاصرة، وقد ترى عَبرَ هذا بُحراناً في المجهول، يحاولُه شاعرٌ مغامر. هذا ضربٌ غريبٌ من الاجتهاد في تفسير الطبيعة بالتأكيد، والشاعرُ فيه «كاهن اللامرئيات»، على حدّ قول الشاعر الأميركي والاس ستيفنس. وحين يقتصر على المرئيات، بسبب عجزِه عن تجاوزها يُصبح ناثراً. وللشاعر بودلير تعبير طريف في هذا السياق يقول: «الشاعر يُشبه أمير السحب، يمتطي العاصفةَ ساخراً من رامي السهام، ولكنه حين يُنفى إلى الأرض، حيثُ الضجيج، يمنعُه جناحاه العملاقان عنْ المشي». بهذا المعنى أفهم تعامل الشاعر مع الأسطورة، لا مع التاريخ، والأسطورةُ لديَّ، في مقابل التاريخ، هي ما يتخفّى وراء الظاهر من حقائقَ كبرى، في حين يقتصرُ التاريخُ في تعامله على وقائع محددة، والشاعر، الذي يتعامل مع ظاهر الوقائع المحددة لا يغادرها مثل «كاهن اللامرئيات» إلى ما وراءها، هو ناثرٌ، مهما تزاحمت على قِشرة قصيدتهِ المحسّناتُ الجمالية، ومغامراتُ المُخيّلة، والبراعةُ اللغوية. والآن، بعد أن تنضج القصيدةُ في مُخْتبرِ الشاعر، وتهدأُ على الورق، تُحاولُ عواملٌ دخيلةٌ أن تدفعها الى أن تسعى إلى قارئها المحدد الهوية مُسبقاً. والقصيدةُ لو نطقت لاحتجت؛ لأنها، منذ بدء التكوين، لمْ تكنْ تُكتب لأحدٍ بعينه، شاعرها يؤكّدُ ذلك، وقارئها لم يكن على معرفة بها قبل أن تقع بين يديه. الشاعر الروسي منْدلشتام، الذي قتلته السلطة الشيوعية عام 1938، كتب عام 1913 مقالا بعنوان «عن المُحاور»، تخيّل فيه نفسه وهو يمشي بين التلال، ثم وقعَ على زجاجةٍ مغلقة، وجدَ داخلَها ورقةً بمعلوماتٍ تُعرّف بشاعر: اسمه، حياته، وموته في سفينةٍ غارقة. بهذا المعنى تبدو القصيدةُ، كما يرى منْدلشْتام، موجّهةً إلى قارئ، أو مستمعٍ ما، غير محدد الهوية، قصيدةٌ تنطوي على خبرة شاعر روحية استثنائية، وُضعت، حين أُنجزت، في زجاجة ورُميت في البحر، الذي سيعثرُ عليها بحكمِ البحثِ أو الصدفة هو قارئها الذي استهدفته حينَ كُتبت. استهدفته بشكل غامض، ولكن ضروري. لأن الشاعرَ يكتب قصيدته لقارئ ما بالتأكيد، لقارئ سيفتحُ الزجاجةَ المُغلقةَ ذات يوم. وصلتني، قبلَ سنواتٍ، رسالةٌ من امرأة كانت قد حصلت على أعمالي الشعرية، وصارت تقرأها بحرص من وجد فيها طرفاً مُحاوراً مع عالمها الداخلي. رسالتها تتزاحم فيها الأسئلة، فهي لا ترى الأسى الواضح في القصائد «وليد تأزمٍ روحي، بل هو درجةُ العتمة التي يبلغُها عمق التأمل». وأن مصدر تعلّقها في القصائد وليدُ «هذا التداخل بين هاجسيْ النذيرِ والبشارة في صوت شعري واحد»... الخ إنها وجدت صوتاً شعرياً يحاور صوتاً في عالمها الداخلي، وان هذا منتهى ما تطمعُ فيه من الشعر، لا لأنه سلوان وعزاء، بل لأنه دليلٌ يقودُ قارئه إلى عالم خبرةٍ داخليةٍ استثنائية، هذه السيدة لم تعرف أن حاجة الشاعر لاكتشاف قارئ يتحاور داخلياً مع قصائده قد تفوقُ حاجتها هي، ولذلك بدأت رسالتي لها مع هذا البيان، الذي أصبح مطلَعَ قصيدة في ما بعد: قارئٌ مثلكِ يكفي شاعراً مثلي