الحرائق بكل أنواعها هي التي تفوز هنا غالباً بسبب الإهمال والكسل واللامبالاة وقلة الحيلة أيضاً.

Ad

في أوائل السبعينيات احترقت دار الأوبرا التي شُيدت في عصر الخديوي إسماعيل وكنت أحد شهود ذلك الحريق الهائل الذي افترس الدار أمام أعيننا وكان جنود الإطفاء يحاولون كعادتهم بالماء فقط صد غيلان النار دون جدوى، واحترق في ذلك الصباح البعيد جزء عزيز من التاريخ واحترقت معه مُتَع صغيرة شخصية لي، فقد كانت الدار تحرص في ذلك الزمن على تقديم عروض فنية وموسيقية شبه مجانية صباح يوم الجمعة من كل أسبوع، وكنت من رواد هذه العروض النهارية.

وتتابعت الحرائق فاحترق قطار الصعيد بركابه ومسرح قصر ثقافة بني سويف ومعه أكثر من خمسين كاتباً وناقداً مسرحياً واحترقت العبّارة «السلام» وغرقت في البحر الأحمر ومعها أكثر من ألف مواطن احترقت قلوب أُسرهم في الأيام الأخيرة بعد صدور حكم محكمة الجنح الذي برأ صاحب العبّارة وعضو مجلس الشورى المعين «ممدوح إسماعيل» ثم احترق أخيراً مجلس الشورى نفسه أمام أعين الجميع وتابعنا على مدى ساعات ذلك الحريق وهو يلتهم المبنى طابقاً بعد آخر وجنود الإطفاء وهم يحاولون أيضاً بالماء فقط قهر الجحيم الذي ابتلع جزءاً آخر من التاريخ وأثار عواصف الألم والشماتة والتشفي والسخرية من الحكومة الذكية وأجهزتها التي فضح الحريق تخبطها وترهلها وإهمالها وغيابها عن العصر وعجزها عن مواجهة الكوارث وحماية التاريخ والتراث.

أكثر من ثلاثة عقود ونصف تفصل بين احتراق دار الأوبرا ومبنى مجلس الشورى تبدل فيها رد فعل الناس من الحزن والأسى على احتراق دار الأوبرا إلى التشفي والسخرية واللامبالاة بعد احتراق مبنى مجلس الشورى، وهذا التبدل يجرنا إلى الحديث عن حرائق أخرى غير مرئية، حرائق أخطر وأكبر وأقدر على التدمير لأنها تعمل ببطء وبعيداً في القاع وبلا دخان أو ضجيج أو محاولات جادة للإطفاء، وقد نجحت هذه الحرائق على مدى رُبع قرن في تغيير شكل وملامح المجتمع، وقد كان احتراق الطبقة الوسطى وانحسار دورها هو أهم هذه الحرائق وأخطرها، وهو سبب ما يعانيه المجتمع الآن من ارتباك واحتقان وتوتر وتهيؤ للانفجار، فحتى أواخر السبعينيات ظلت هذه الطبقة عريضة وقوية وقادرة على قيادة المجتمع وحمايته وضمان استقراره، وظل التعليم يضخّ ويضيف اليها دماً جديداً وأجيالاً من المهنيين والمثقفين وأساتذة الجامعات والقضاة وغيرهم، لكن سياسات الانفتاح والنهب والخصخصة وشيوع الفساد والقرارات الاقتصادية العشوائية أحرقت الشريحة الكبرى من هذه الطبقة، وهبطت بها إلى القاع ثم تكفلت البطالة وموجات الغلاء المتلاحقة بإحراق قيمها وأحلامها وقدرتها على الصمود، وأشير الى اعتصامات المهنيين واحتجاجاتهم العديدة وإلى البطالة التي يعانيها الأطباء والى بيانات نقابات «الأطباء- الصيادلة- أطباء الأسنان» التي نشرتها الصحف في الفترة الأخيرة، والموجهة الى أولياء أمور الطلاب المتفوقين الراغبين في إلحاق أبنائهم بكليات الطب والصيدلة وطب الأسنان لكي تحذرهم من هذه البطالة التي تتصاعد وتدعوهم إلى دراسة سوق العمل واحتياجاته.

ومن احتراق الطبقة الوسطى الى احتراق الشفافية والمصداقية والانتماء والثقة بالنظام وجدوى التعليم وهيبة الدولة وصورة المستقبل، حرائق لا تحصى ظلت على مدى ربع القرن الأخير تهد وتدك وتبدل الولاء وتحشو رجل الشارع بالمرارة والقنوط والاغتراب، وكان من الطبيعى أن يسخر البعض من فكرة الوطن والمواطنة ومن أغنية «مصر هي أمي» وأن يشعر أنه مواطن من الدرجة الثالثة أو العاشرة زائد عن الحاجة تسعى الحكومة الى التخلص منه أو إرهابه و تجويعه في الوقت الذي تدلل فيه الأثرياء ورجال الأعمال وناهبي البنوك وناشري الفساد والمحتكرين والمتاجرين بحياته ومعاناته، لذلك سادت الشماتة والتشفي واللامبالاة والسخرية من الحكومة وعجز أجهزتها بعد احتراق مبنى مجلس الشورى الذي يراه الناس مجلساً لا يَخُصّهم ولا يشعر بهم ولا يضعهم في حساباته ولا ينحاز إلا إلى رجال الأعمال والمحتكرين وكبار المسؤولين وأصحاب العبّارات المحترقة والغارقة.

* كاتب وشاعر مصري