حديقة الإنسان: لوحة سريالية!
من حسن حظ «سلفادور دالي» أنه لم يعش حتى وقتنا الراهن، وإلا لمات غمّاً وهو يرى سرياليته تسبح باهتة مع «ساعاته الذائبة» في اللوحات... خاصة عندما يرى أن ساعاتنا، نحن العرب، تسيح على عماها، دون عقارب أو أرقام! يحدثنا الروائي الكولومبي غابرييل ماركيز في مذكراته «عشت لأروي» عن أنه حضر، في شبابه، عرضا غريباً بطله «جندب» كان يقوم بأداء حركات راقصة وفق إشارات من مدربه، وكان في نهاية العرض ينحني كأي نجم استعراض لتحية الجمهور وسط عواصف التصفيق.
وينتهي ماركيز إلى أن فنانا تشكيليا كبيرا من بين حضور هذا العرض، مد يده والتقط «الجندب» من جناحيه، ثم دسه في فمه... وأكله!إن الحياة المهنية البارعة والنهاية المأساوية لذلك «النجم» تتجاوزان كثيراً تخوم الواقعية السحرية لتدخلا في نطاق الرسوم المتحركة، على الرغم من أن الراوي يسجل وقائع حياته التي عاشها فعلا على الأرض، بعيدا عن الفنتازيا الروائية التي اعتاد أن يسطرها على الورق.ولكي نصدق أنه لا يبالغ لابد لنا أن نتذكر أن ماركيز قد صرح مرة بأن ما يراه الناس غرائبيا في كتاباته هو أقل بكثير من غرابة ما يجري واقعيا في أميركا اللاتينية.ومثله كانت إيزابيل الليندي تقول إن من يعيش وسط أسرة كأسرتها لا يحتاج مطلقا إلى استخدام الخيال لكي يكتب.أعتقد أنه وجب علينا، الآن، أن نصدقهما دون أن نطالبهما بشهود إثبات، لأن ما نراه بأم أعيننا من وقائع تجري أمامنا يوميا في جميع أنحاء العالم، يبدو أكثر غرابة مما يرويانه، بل هو ـ ربما بفضل العولمةـ يمتاز بكونه خليطا عجيبا من الواقعية السحرية والسريالية والتجريدية وأفلام الكارتون.ونستند في ذلك، أول ما نستند إلى قاعدة «القاعدة» التي تفخّخ كلّ شيء، منذ زمن طويل، لقتل الناس بلا تمييز: من توراعورا إلى الفلوجة والعوجة إلى نيويورك إلى مدريد إلى بالي إلى الرياض إلى الدار البيضاء إلى ما شاء الرعب من بقاع الأرض... لكنّها ما أن تصل إلى بوابة فلسطين... حتّى تدوس كوابحها بكل قوة، فتزعق عجلات قطارها بشرر التّوقف العنيف، شاكرة ربّها على عدم تلوّث ثوبها الطاهر بدم الصهاينة الأرجاس!القاعدة لدى «القاعدة» هي الجهاد في كلّ مكان ما عدا المكان الوحيد الذي يجب أن يجاهد فيه الإنسان من أجل قضية واضحة وعادلة وصارخة بأن أهلها هم أكثر حاجة من غيرهم... لغيرة أهلهم! ومن صور هذا الخليط العجيب الذي تندهش منه الدهشة ويضحك منه البكاء، ما نشرته جريدة «السبيل» الأردنية، مرّة، من أن مجموعة إسلامية مجهولة قد أرسلت إليها بياناً تدّعي فيه مسؤوليتها عن اغتيال اثنين من الغربيين في عمّان، مرفقة بيانها بـ«فوارغ الرّصاصات» المستخدمة في عملية الاغتيال كدليل على براءة المحكومين بالإعدام في هذه القضيّة.وعندما اتصلت الجريدة بمحامي المحكومين أفادها بأنه، هو الآخر، قد تلّقى نسخة من ذلك البيان، ومعه أيضا نسخة من «فوارغ الرصاصات»!.ومن وراء المحيط، فاجأنا المدير الجديد لتلفزيون BBC البريطاني «مارك تومسون» بأنّه قَبِلَ وظيفته منصاعاً لصوت ضميره، وذلك مثلما فعلت سونيا غاندي في الهند!والمفارقة هنا هي أنّ هذا الإعلامي لا يعلم سعة التناقض بين صوت ضميره وصوت وظيفته في بلد كبير جداً بمساحته وبعدد سكانه وبقدم ديمقراطيته!ومع ذلك، فإنّ حكاية سونيا غاندي لا تبتعد هي أيضاً عن غرائبية الخلطة العجيبة، فعلى الرغم ممّا تبعثه تلك الحكاية من مشاعر التقدير والإعجاب، فإنها تنطوي في الوقت نفسه على مفارقة كارتونية باعثة على الضحك:امرأة من أصل إيطالي تفوز برئاسة حكومة أكبر دولة آسيوية، وتتخلّى عن منصبها لرجل سيخي يضطره البروتوكول لتلاوة قَسَم تنصيبه أمام رئيس مسلم، في بلد أغلبية سكّانه من الهندوس!من حسن حظ «هانّا» و«باربيرا» أنهما ماتا قبل أعوام عدة، وإلا فإن قصة معاهدة الصلح بين «توم وجيري وسبايك» التي قدماها في فيلم كارتوني، كانت ستبدو لهما حفلا جنائزيا أمام كوميديا هذه الحكاية الجارية فعلا في واقع البشر.ومن حسن حظ «سلفادور دالي» أنه لم يعش حتى وقتنا الراهن، وإلا لمات غمّاً وهو يرى سرياليته تسبح باهتة مع «ساعاته الذائبة» في اللوحات... خاصة عندما يرى أن ساعاتنا، نحن العرب، تسيح على عماها، دون عقارب أو أرقام!ومن سوء حظ ماركيز أنه عاش ليرى أن واقعيته السحرية لم تعد تثير الاستغراب إلا لكونها أقل غرابة من غرائبية هذا العالم السعيد!* شاعر عراقي