بتعابير تنم عن كثير من «التأثر»، قال المحلل الإسرائيلي لمذيع الـ«سي إن إن» إن قلبه ينفطر لدى مقتل كل طفل فلسطيني؛ لكن هم أيضا لديهم أطفال يريدون حمايتهم، وللأسف، لم تجد الوسائل الأخرى لتحقيق هذا الهدف، وبالتالي لم يكن هناك بد من الحل العسكري! ولو صدق تأثره، لكان قلبه الآن نثراً وأشلاء انكسارا على عشرات الأطفال الذين قتلوا فرادى وجماعات خلال الأيام القليلة الماضية، لكن الفعل العسكري المتوحش بعنفه على الأرض، لا يرافقه إلا معسول الكلام، وتأكيد الحرص على المدنيين في غزة والأسى لوقوعهم ضحايا في هذه الحرب «الدفاعية». وبين كلمة وأخرى، وتعبير أسف وآخر، يكون جسد قد نسف وحياة قد سلبت وأحبة قضوا تحت الركام.

Ad

وبفارق دقائق معدودة وعلى شاشة فضائية أخرى، يظهر ملثم من حركة «حماس»، يكيل الوعيد والتهديد للعدو، يتحدث عن المقابر التي ستنفتح للأعداء والجثث الموعودة بها وعن الصمود والعزة والبقاء. هو الخطاب نفسه الذي تشتعل فوق لهيبه الجماهير العربية والإسلامية. تدعو «حماس» للانتقام في الوقت نفسه الذي تبكي فيه أهل غزة ومأساتهم، وبين الهتاف والهتاف يسقط شهيد ويدك منزل، وبين الوعيد والوعيد تتضاعف أعداد الجرحى والثكالى.

والقصة ليست بجديدة، مازالت تتكرر منذ عقود، ومازالت قوائم الشهداء تمتد حتى أتخمت الذاكرة.

فقوائم الضحايا تترك وراءها غضبا ومشاريع ضحايا جدد، ودائرة الانتقام والانتقام المضاد لا تعرف النهاية. يستوي في ذلك إن توازنت آلة التدمير والرعب على طرفي الصراع أو اختلت حتى السخرية كما هو الأمر الآن.

مع ذلك، يصعب على الأغلبية العظمى منا في غير أوقات العدوان، السماع بمصطلح المقاومة السلمية ونبذ السلاح، فكيف والدماء تتحدث والضحايا بالمئات؛ والغضب في أوجه ومطالب الثأر في أقصى درجات تيقظها، لكن ربما لهذه الأسباب بالذات ينبغي أن تخبو الأصوات المطالبة بالصمود والمقاومة حتى آخر فلسطيني.

فالجماهير الهادرة غضبا هذه الأيام، التي تطالب أهل غزة بالصمود في وجه الموت، تعلم تماما أنها في غير هذه الظروف، لا تجرؤ على الخروج إلى الشارع مهما كبرت مظالمها وتعاظمت معاناتها، اقتصاديا أو سياسيا. هي تخشى اضطهاد سلطات بلادها والزنزانة وأحكاما بالسجن، وليست في ذلك ملامة بشكل مطلق، فالخوف مشروع وطعم القمع مر؛ لكنها مع ذلك ترى في موت الآخرين بطولة وفي استمرار عذاباتهم صمودا، وفي نصرهم المرجو على جثث أبنائهم انتصارا لها بالوكالة.

الغضب الذي يعبر عن نفسه هذه الأيام في المظاهرات الحاشدة، هو بالتأكيد صادق ومتألم، لكنه غالبا ما ينسى مبتدأه أو يضل الطريق، فتتغلب مشاعر الرغبة بالثأر والانتقام على الإحساس بحياة الآخرين والحرص عليها.

ولعله من الضروري التأكيد، أن رفض المقاومة العنفية لا ينبع عن موقف أخلاقي أو إيمان بالنظرية اللاعنفية فقط، وليس بالضرورة نتيجة موقف سياسي أو إيديولوجي من حركة مقاومة أو سواها؛ بل هو بديهي لمن يشهد أي جريمة ترتكب بحق الأبرياء؛ وبديهي بميزان الربح والخسارة، الدمار والعمار، الموت والحياة.

من ناحية أخرى، فهو يتيح لمن يتذكرون فلسطين وأهلها أوقات المآسي فقط، ويلقون على عاتقها بغضب آني وردود فعل سرعان ما تنحسر، مهمة استعادة كرامة مستباحة وحقوق مهدورة لأمة هم أفرادها، يتيح لهم أن يشاركوا في هذه المهمة طيلة أيام السنة! لأن أشكال المقاومة السلمية لا تستنفد وهي محملة دائما بإمكانات الإبداع والابتكار، ولأن دعما هادئا ومنظما وطويل النفس، عوضا عن دعم لا يتجلى إلا بإلقاء المزيد من العبء والمسؤولية على أهل القضية، من شأنه أن يكون سندا حقيقيا للقضية وأهلها.

مئات الملايين في عالمينا العربي والإسلامي، يتأثرون بنهج المقاومة المسلحة التي تعد بضعة آلاف من الأفراد، ويؤيدونها، وإن كان من الصعوبة بمكان لأسباب يمكن تفهمها، أن تلقى فكرة المقاومة السلمية حوامل لها في المجتمع الفلسطيني خصوصا في مثل ظروف غزة اللاإنسانية، إلا أنه يصعب تفهم انجراف الجماهير نحو نقيضها، في الوقت الذي من الممكن أن تكون حركة التأثير عكسية، من هنا إلى هناك، عبر جسر ثابت من التواصل والدعم، متعدد القنوات، لا تتلاعب به المصالح الإقليمية ولا تقوى على نسفه مدرعات أو سواها.

* كاتبة سورية