قد لا يعرف الكثيرون من أبناء هذا الجيل أي شيء عن الممثل الكوميدي البريطاني المميز «نورمان ويزدوم» وذلك لأن مجده الفني كان قد تحقق في فترة الخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن الماضي، حتى أن معظم أفلامه الرائعة، التي بلغت خمسة عشر فيلما، كانت داخلة في عصر «الأبيض والأسود».

Ad

أما أنا وأبناء جيلي، فقد كانت معرفتنا به حميمة جدا بحيث جعلته وكأنه واحد من أصحابنا.

وإنى لأتذكر كيف كنا ننتظر رؤيته بلهفة من العيد إلى العيد، حيث كانت «سينما الوطني» في البصرة تعرض له فيلماً أو فيلمين في كل موسم، نخرج بعد مشاهدتهما مستنزفين من الضحك، مُحصين ما تبقى في جيوبنا من دراهم، طمعا في العودة لرؤيته من جديد.

وخلال أعوام إقامتي في بريطانيا، تيسر لي في فترات متباعدة أن أشاهد «نورمان» عند ظهوره في بعض المسلسلات أو المقابلات التلفزيونية، وقد بدا فيها شيخا هرما، لكنه احتفظ، على الرغم من ذلك، بروح الفكاهة الطاغية ذاتها، وبأدائه المعهود للحركات الخطرة المضحكة، الأمر الذي أبقاه في عيني على صورته الأولى في أيام شبابه المبكر.

ومنذ بضعة أعوام، سعدت بقراءة سيرته الذاتية التي صدرت بعنوان «My Turn» أو «دوري»، فوقعت فيها على كثير من المعلومات التي حلّق بعضها بأجنحة الضحك، فيما غرق أغلبها في بحر من الدموع!

وكان أبرز ما حفر في نفسي من ويلات طفولة «نورمان».. ضياعه الحقيقي وهو صبي أعزل، بعد طلاق والديه، وانشغال كل منهما عنه بزواج جديد، حيث وجد نفسه محروما من المأوى تحت سقف أي منهما!

ولاأزال أذكر، متعجبا ومنقبضا إلى أبعد حد، كيف أنه بعد مبيته عدة ليال في الشوارع، قد راح يبحث جاهداً عن منزل أبيه الجديد، فلما وجده ذات مساء، فوجئ بأبيه يطرده من البيت بقسوة هائلة لم يستطع أن يفهم سببها على الإطلاق، ولذلك فإن الصغير المصدوم الغارق في دموع فجيعته، وقف على مبعدة من البيت، وأطلق صرخة عالية تشرخت بالنحيب: «أبي... لن أفكر في رؤيتك، بعد الآن، ما دمت حياً»... ولم يره بعد ذلك أبداً!

ومضت أيامه على التسكع في الشوارع أو المبيت في الحدائق العامة، أو فوق قواعد التماثيل، أو تحت مقاعد مواقف الباصات، حتى هيّأ له القدر صاحب مقهى كان يتصدق عليه صباحا ببعض الخبز والحليب، فنصحه بالالتحاق بالجيش، ولأنه كان صغيراً وضئيلاً جداً، فقد أبدى شكه في أن يقبلوه، فاقترح الرجل عليه أن يلتحق بإحدى الفرق الموسيقية العسكرية، لكن الفتى لم يكن يعرف العزف على أية آلة، فقال له الرجل بصراحة: «اخدعهم. اخترع لك عمرا أكبر، وازعم أنك تعرف العزف».

وتقدم بالفعل، ذاكراً للعريف المختص بإجراء الامتحان أنه قد بلغ السن القانونية للتجنيد، ولما سأله العريف عما يحسنه في الموسيقى قال إنه يستطيع «التصفير» ببراعة، عندئذ أمره العريف بأن ينصرف، لكنه وهو يهم بالمغادرة، التفت مختنقا بعبرته، ليقول: «لكنني يمكن أن أتعلم العزف عندكم».

وفي خفقة غير مفهومة لأجنحة الحظ، لامست عبرته قلب العريف فأشفق عليه واستوقفه قائلا: «حسناً... تعال»!

ومنذ تلك اللحظة، ضمن «نورمان» المأوى والمأكل والملبس، ووجد في الجيش المدرسة التي تعلم فيها العزف على جميع الآلات، كما تعلم جميع الحركات الخطرة التي نفعته، بعد ذلك، في عالم التمثيل.

وعندما غادر الخدمة، كان مؤهلاً للعمل على خشبة المسرح في مجال (الاسكتشات الفكاهية) وحين واتته فرصة العمل في السّينما بلغ قمّة مجده وثرائه، وكان من براعته أنه ألّف ولحّن وعنّى، في أفلامه الأولى، أغنيات عدّة أصبح بعضها على قمّة لائحة الأغنيات الأكثر مبيعاً في ذلك الزمان، الذي لم يكن لأحد أن يتوقعه من (مهرج) مثله!

وكان أن تزوّج «نورمان» وأنجب ولداً وبنتاً، لكنه حين فشل زواجه، لم يتخلّ عن ولديه مطلقاً، بل أوقف حياته وماله على أن يعيشا حياة سعيدة في كنفه، ولقد وصف في «سيرته» شدة تعلقه بهما وحبه لهما، واستذكر كل اللحظات السعيدة التي كان يمضيها معهما، وذكر بفخر كيف أنهما رافقاه إلى حفل استلامه وسام الفروسية من الملكة، حيث تحول من «نورمان» ذلك الصبي البائس المشرّد إلى «السير نورمان»!

والواقع أن تجربة حياته المرة قد دفعته إلى توزيع حنانه ورحمته على مدى أبعد كثير من دائرة أسرته الصغيرة، إذ خصص جزءاً من ماله لإقامة عدد من دور الأيتام في أكثر من بلد، خصوصاً في بلاد البلقان، حيث كان على اتصال شخصي مستمر بأولئك الأطفال المحرومين من نعمة الأبوة.

بعد قراءتي تلك السّيرة، كنت قد علقت النيّة على استعراض فصول البكاء في حياة هذا الرجل الذي أضحك الدّنيا، غير أن ظروف مرضي اللئيم قد شغلتني عن ذلك الأمر، كما أنستني توابع المرض كل شيء عن الموضوع، لكنّ تحقيقاً ظهر في صحيفة «ذي ميل أوف صنداي»، منذ أكثر من عامين، نبّهني بحدّة إلى ما كنت قد أُنسيته، وأعاد الرّجل إلى ذهني مصحوباً بوخزه قاسية تُدمي القلب.

ما الحكاية؟!

جاء في التحقيق أنّ «السير نورمان ويزدوم» يقيم الآن وحيداً في غرفة ضيّقة متقشفة في إحدى دور الرعاية المجهولة في «آيل أوف مان»، فيما لا يبعد بيته الفخم الذي يقّدر ثمنه بما يقرب من مليون جنيه إسترليني، إلا مسافة نصف ساعة بالسيّارة من مكان إقامته في تلك الدّار!

كيف آلت أمور هذا الفنان الكبير إلى هذه الحال؟!

لقد ادّعى جيرانه وزملاؤه القدماء أنّ ابنه (نيكولاس 55 سنة) وابنته (جاكلين 52 سنة) وزوجة ابنه (كيم 53 سنة) قد استطاعوا بطريقة ما، الحصول على وكالة رسمية تمنحهم سلطة مطلقة على شؤونه، مما مكّنهم من بيع مقدار كبير من ممتلكاته دون علمه، وفي الوقت الذي ألقوه، وهو في عامه الثاني والتسعين، في تلك «الزنزانة الرحيمة» بدار الرّعاية، عرضوا للبيع بيته المسمّى «بالالاك» وهو ما يعني «بيت الضحكات» باللغة الغيليّة، لغة السّلتيين في إيرلندا والمرتفعات الأسكتلندية... ذلك البيت الذي يكتظ بتذكارات مهمة اجتمعت له على مدى ستين عاما من عمله كواحد من أحب الممثلين الكوميديين في بريطانيا، حيث كان يتوقع أن يعيش فيه آخر أيّامه!

وادّعى أصدقاء «نورمان» أنّ الابنين قد منعاهم من رؤيته، وقصرا زيارته على أفراد الأسرة فقط الذين كانوا مزودّين بكلمة سر، وعليه فإن أي شخص لا يعرف «كلمة السّر» لن يسمح له بدخول دار الرعاية!

تقول الصحيفة إن ذلك الادعاء بدا غير قابل للتصديق، لكن كبرى الممرضات في دار الرّعاية «لينورا فيوتس» أكّدت صحّة هذا الأمر قائلةً: «نعم بناء على شرط أسرته، لا يمكننا أن نسمح لمن لا يعرف «كلمة السّر» برؤيته، إنّه لأمر يحمل على الشّعور بالعار»!

كم هو محزن ومؤلم أن يختتم «السّير نورمان ويزدوم» دائرة حياته بالنقطة التي ابتدأ منها، حيث يبدو في كتاب علاقاته الأسريّة بين الوالد والمولود، وكأنه «الجملة المفيدة الوحيدة» التي انحشرت بين قوسين غليظين قاسيين، أولهما مفتوح على التشرد، وثانيهما مغلق على الاعتقال!

* شاعر عراقي