حديقة الإنسان: الكتابة المزدوجة

نشر في 03-04-2009
آخر تحديث 03-04-2009 | 00:00
 أحمد مطر للروائي الأميركي البارع «جون شتاينبيك» تجربة رائعة ومدهشة في استحداث فن أدبي هو مزيج من المسرحية والقصة، وعلى الرغم من أنه قد رسخ هذا النوع من الأدب الذي لم يسبقه إليه أحد، من خلال ثلاثة أعمال مهمة هي على التوالي: عن الفئران والرجال، وأفول القمر، والعاقر، فإنه لم يدع البطولة في هذا الميدان بوصف ما قام به ابتكارا لشكل أدبي جديد، بل حرص في كل مرة على وصف عمله كونه مجرد محاولة، وأكد ضمنا خطأ اعتباره شكلا جديداً، لأنه في واقع الأمر خليط من أشكال قديمة عدة، أي أن عمله هو مسرحية تسهل قراءتها، وقصة يمكنأان تمثل بمجرد فرز الحوار.

ومن ضمن الأسباب التي دعته إلى معالجة هذا النوع الأدبي،أنه كان يجد من العسير عليه قراءة المسرحيات، الأمر الذي يشاركه فيه كثير من الناس، فالمسرحية المطبوعة، على حدّ قوله، يكاد لا يقرؤها إلا المتصلون بالمسرح اتصالا وثيقا، إضافة الى عدد محدود نسبياً من القراء المولعين بالمسرح ولوعا انفعاليا.

وعليه فإن محاولته هذا الشكل الأدبي نابعة من رغبته في تقديم مسرحية يمكن أن تقرأ على نطاق واسع بسبب كونها مفرغة في قالب قصة عادية، وهي وسيلة من وسائل التعبير بألفها الناس أكثر مما يألفون المسرحية.

ويعترف شتاينبيك بصعوبة مثل هذه التجربة، لاختلاف أدوات وشروط المسرحية عنها في القصة، مما يضطر الكاتب المتصدي لهذا العمل الى السير على سلك مشدود بين ما تسمح به القصة من فضاء لا محدود التحرك في مجال الأفكار والجغرافيا، وما تفرضه قواعد المسرح الصارمة من ضيق المكان، ومحدودية المشاهد، وعدم إمكانية إبرإز الأفكار إلا من خلال الحوار وحده.

ويرى أن القاص في هذه الحالة محكوم بأن يتبع نظام المسرح، حيث يستحيل عليه أن يضع أي شيء غامض عقليا أو حسياً، كما يستحيل عليه أن يسرف في المناقشة والانحراف عن الفكرة الرئيسية، بل ينبغي له أن يكون واضحا وموجزا ومباشرا وفعالا بحيث لا يعثر على الحل الدرامي إلا من خلال الشخوص أنفسهم.

ويؤكد «شتاينبيك» أن المصاعب التقنية في هذا النوع من الأدب هي كثيرة وجدية، فالكاتب المسرحي يرتضي في العادة أن يترك الأمور الحسية للمخرج أو مصمم الديكور، غير عابئ باصطناع الوصف على طريقة القاص، بينما الكاتب القصصي معتاد على دعم الحوار بالوصف وميال الى الابتعاد عن بنية المسرح الضيقة.

ويختم ذلك بحكم شبه قاطع، هو أن الكاتب إذا لم يكن معتادا على (مشاهدة) قصته أمام عينيه، فإن لجوءه الى هذا النوع الفني خليق بأن يقترن بالإخفاق.

الحق أن «شتاينبيك» بخبرته الطويلة والواسعة ككاتب، قد نجح في اجتياز المصاعب الفنية التي أشار إليها، لكنني شخصيا، عندما قرأت تلك الأعمال، في أزمان متفاوته، لا أتذكر أنني قرأتها باعتبارها أعمالا ثنائية، بل مضيت اليها باعتبارها قصصا لكابت أحب أدبه، برغم إداركي التام لضخامة الجهد الذي بذله من أجل إعطائها بعدها المسرحي، إذ إنني من تلك الفئة المولعة بقراءة النصوص المكتوبة للمسرح وحده.

وعليه فإن تلك التجارب، في رأيي، لم تطمح الى أن تكون ظاهرة عامة، بل هي، بالنسبة لشتاينبيك، مدفوعة برغبته الشخصية في الكتابة للمسرح دون التفريط بإمكانية توزيع نصوصه المسرحية على مدى واسع مثلما هو الحال بالنسبة لرواياته الخالصة.

ذلك لأن أحداً من كتاب المسرح أو القصة لم يشغل باله بمسألة الكتابة المزدوجة، وظلت النصوص الخالصة في المجالين تطرح بغزارة في جميع الأوقات.

التساؤل يقوم هنا حول جدوى عنائه في هذا الشأن ما دام يعلم، من واقع تجربته الخاصة، أن العمل القصصي الناجح يمكن إعداده للمسرح أو السينما، مثلما حصل لمعظم أعماله.

والإجابة، كما أرى، هي أن «شتاينبيك» ربما حرص على أن يكون النص في جميع حالاته هو نصه الشخصي كما أراده تماما، لإدراكه أن إعداد القصة الخالصة للمسرح أوالسينما هو كتابة أخرى قد تأخذ من النص الأصلي أو تضيف اليه، حسب خبرة ورؤية المعد.

ولنا أن نتذكر هنا موقف نجيب محفوظ من هذه المسألة فهو على الرغم من كتابته العديد من سيناريوهات الأفلام المقتبسة من روايات غيره، كان يرفض بشكل قاطع كتابة سيناريوهات لرواياته الشخصية المتحولة الى أفلام، مؤكدا أن عمله الخاص قد انتهى بكتابة الرواية، أما كتابة السيناريو للرواية نفسها فهو عمل آخر لا يريد أن يتدخل فيه أو يحاسب عليه.

وعلى كل حال، فإن أعمال «شتاينبيك» المشار اليها قد حققت رغبته على جميع الصعد، فهي نشرت ولاتزال تنشر على نطاق واسع، فيما قيض لها أن تقدم بنجاح سواء على المسرح أو في السينما. فنص (أفول القمر) مثلا، الذي كان عملا دعائيا ضد النازية، قدم على المسرح في عام صدوره 1942، وتحول الى فيلم سينمائي في العام التالي كما أن نص (عن الفئران والرجال) الذي عالج فيه كارثة الكساد في أميركا، قد عرض على المسرح أيضا في عام صدوره 1937، وقدم في السينما مرتين عامي 1939 و 1999.

أما نص (العاقر) الذي كتبه عام 1950 فقد عرض كمسرحية تلفزيونية عام 1959، ثم قدم على الخشبة كمسرحية غنائية.

وأعتقد أن العمل الأخير هذا يقف في القمة من تلك التجارب، لتفرده بميزتين كبيرتين، فهو من حيث الموضوع لم ينشغل كما في العملين السابقين بالمؤثرات الآنية للسياسة والاقتصاد، بل غاص عميقا في مسألة الوجود الإنساني المطلق، مرتكزا على حقيقة أن الناس جميع الناس هم أمة واحدة، مهما تمسكوا بقدسية العرق أو اللون أو الطبقة أو القومية، ومؤكدا ضمنا أن أهم ما ينبغي الحرص على تواصله والقلق عليه هو بقاء النوع الإنساني على إطلاقه.

أما من حيث التقنية فقد جاء ببدعة مذهلة لا أعلم أن أحدا من الكتاب قد سبقه اليها وهي، في رأيي، تقف وحدها كإنجاز فني له قيمته الكبرى، حتى لو لم يكن الكاتب قد وُفّق الى إنجاز ازدواجية النص بنجاح.

تلك البدعة التي أسهمت الى حد بعيد في خدمة الهدف النهائي للفكرة، تمثلت في تغير طبقات ومهن شخصيات النص من فصل الى آخر، فيما تواصل نمو الحدث بشكل سلس وطبيعي يجعل القارئ متابعا له بألفة حتى النهاية، دون أن يحس بالاختلاف الجذري التي طرأ على هوية الشخصيات.

في نص (العاقر) هناك أربع شخصيات لا أكثر زوج في خريف العمر، وصديقه الوفي الذي يماثله سنا، وزوجته المحبة الأكثر شبابا، ومساعده الشاب الذي يستثمر فتوّته وسنوح الفرصة في محاولة إغواء الزوجة.

في الفصل الاول يكون جميع هؤلاء من العاملين في السيرك: الزوج بهلوان وصديقه مهرج، وزوجته فتاة استعراض، والشاب شريكه في لعبة القفز بين الأراجيح المعلقة عاليا في الهواء.

وإذ يجري شطر من القصة ويبدأ نسيج خيوط الحدث، ننتقل الى الفصل الثاني، فإذا جميع الشخصيات تعمل في مزرعة: الزوج هو صاحب المزرعة، وزوجته معاونته ومديرة شؤون البيت، وصديقه صاحب مزرعة مجاورة، والشاب مساعد له في أعمال الفلاحة فيما الحدث المنتقل من الفصل الاول مستمر في النمو الى حد بلوغ العقدة، فلا يأتي الفصل الثالث حتى يكون الجميع عاملين في البحر: الزوج قبطان سفينة، وصديقه قبطان سفينة أخرى، وزوجته مرافقته في الرحلة، والشاب مساعده على الدفة، وتمضي القصة أو المسرحية الى نهايتها بنهاية هذا الفصل.

ومع كل هذه التغيرات الحادة والمتلاحقة في مواقع الشخصيات فإن القارئ يستمر في متابعة تطور الاحداث حتى نهايتها، دون أن يشعر بأي ارتباك نتيجة ذلك التغير، فالإنسان الكامن وراء أردية الشخصيات يظل هو نفسه، والأحداث الواقعة له تبقى هي الأحداث ذاتها برغم كل تحولاته.

لقد أراد «شتاينبيك» أن يلفت انتباهنا عمليا الى أن الحقيقة الثابتة إنما تكمن في وحدة النوع الإنساني... فيما يبقى التفاوت في المهن والطبقات، ومثله في الأعراق والألوان، مجرد قشور لا قبل لها إطلاقا بتغيير جوهر أو لب تلك الحقيقة.

* شاعر عراقي

 

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top