الرجال أيضاً... يبكون!
مازلنا «نتفلسف» كلما رأينا طفلاً يبكي، ونقول له بصوت فيه الكثير من الوقار: «عيب تبكي يا ولد... عيب، أنت رجل... والرجال لا يبكون»!فالبكاء والدموع، حسب ما جاء في الموسوعة الذهنية العربية «وهي موسوعة لم يطرأ عليها أي تغيير منذ ألف سنة» هما للمرأة وحدها، والرجل الحقيقي، هو الرجل الصلب العنيد القاسي العنيف الحمش «موسيقى تصويرية لو سمحتوا» الذي لا، ولم، ولن يبكي أبداً! مع أن معظم الرجال قد بكوا وشبعوا بكاءً، لكنهم لا يعترفون بذلك، ففي الاعتراف- حسب ظنهم- إقرار بالضعف والانكسار وانتقاص الرجولة!
وهو أمر غير صحيح، فأعظم الرجال في التاريخ، كالأنبياء والزعماء والعلماء والفلاسفة والأدباء بكوا كلهم، والأمثلة كثيرة، فالرسول عليه الصلاة والسلام بكى حين توفي ابنه إبراهيم، والخليفة عمر بن الخطاب كان دائم البكاء من خشية الله، والخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز بكى حين ولي الخلافة خوفاً من حملها الثقيل، وأميرنا وحبيبنا الراحل الشيخ جابر الأحمد، رحمه الله، لم يتمالك دموعه حين ألقى خطابه في الأمم المتحدة أيام الغزو العراقي، فأبكانا وأبكى العالم بأسره!ونحن جميعا، لسنا بأفضل ولا أكثر «مراجل» من هؤلاء وغيرهم من العظماء، فإن كان أحدكم يوما في موقف مؤثر، وشعر برغبة شديدة وجامحة في البكاء وذرف الدموع، فلا يكن في حرج من التعبير عن مشاعره، وليتوكل على الله، وليستعن به، ولا يخشى في البكاء لومة لائم! وهو الكاسب في الآخر، لأن الدموع حسبما يقول الأطباء، لها فوائد جمة للعيون، فهي تغسلها وتجعلها أكثر لمعانا، ولولا أن العيون مبللة على الدوام بقليل من الدموع، لالتهبت وفقدت قدرتها على الإبصار، فهي تشكل طبقة عازلة وواقية لها، ويبدو أن الأستاذ «التمساح» واسع الاطلاع في مجال الطب، فقد أدرك هذه الحقيقة العلمية مبكراً، ولذلك، حرص على ذرف الدموع باستمرار، حتى وهو في أشد حالات الارتياح، بعد أن يصطاد الفريسة ويأكلها عن آخرها «ذهين»، ما شاء الله عليه!لكن المرأة أكثر «ذهانة» منه، فقد اعتادت على البكاء، لأنه لا حرج عليها، وبكاؤها أمر طبيعي جدا، لأنها ببساطة... امرأة، ولذلك كانت فائدتها من البكاء عظيمة جدا، فالدموع تريحها، وتخفف من توترها العصبي، أما الرجل المسكين، فإنه حفاظا على سمعته الرجولية العريقة، اعتاد أن يكتم مشاعره ويحبس دموعه، ويغلي من الداخل كبركان يوشك أن ينفجر، ولذلك طالت أعمار النساء لأنهن «يفرغن» ما في داخلهن على شكل دموع، وقصرت أعمار الرجال لأنهم «يحبسون» حتى ينفجروا، وكثيرا ما كان انفجارا يؤدي إلى القبر!بعض الأطباء- هداهم الله- يحبون الفضائح، ولذلك ينصحون «جادين» بأن يكون بكاء الرجل أمام الناس «لم يأتوا طبعا على ذكر كمية «الطنازة» التي سينالها»، يقولون إن هناك سبباً منطقياً ومعقولاً لذلك، حيث يرون أن بكاءه، سراً، معناه أنه يخجل من دموعه وأحزانه وآلامه، والآلام والأحزان ليست ترفاً بالمرة، إنها ضرورة، والتعبير عنها بالدموع ليس عيباً، وأن يمسح الرجل دموعه، خير له ألف مرة، من أن يعصر قلبه ويحطّم أعصابه ويدمّر صحته، ثم يموت ويفرح أعداؤه!ومن الآن فصاعداً، وحفاظاً على صحتك، ومن أجل حياة طويلة ومديدة، عبرْ عن مشاعرك بالدموع ولا تخجل منها أبداً، فإن كنت على سبيل المثال، جالساً في ديوانية من الديوانيات تتابع مع جمع من الأصدقاء إحدى جلسات مجلس الأمة، وتسمع وتشاهد المشاحنات والمعارك الكلامية والاقتراحات السخيفة من بعض النواب، أو كنت تقرأ في إحدى الصحف تصريحات السادة الوزراء، وتطميناتهم الدائمة بأن كل شيء «عال العال» وعلى «سنجة عشرة»، أو سمعت عن أطفال يموتون في المدارس، وقد التف حولهم مئات الطلبة والمدرسين، لا يعرف أحدهم عن الإسعافات الأولية شيئا، ولا توجد عيادات صحية في مدارسهم، فدع عنك مسألة الرجولة الفارغة يا سيدي، وتجاهل النظرة التي سينظر بها لك الآخرون، وابكِ، ابكِ يا ولدي الحبيب ابكِ، فلدينا من المبكيات هذه الأيام الشيء الكثير!