آخر وطن 
الكتابة...
الجريمة الكاملة!

نشر في 08-05-2009
آخر تحديث 08-05-2009 | 00:01
 مسفر الدوسري هناك ملايين الـ«لماذا» في الوجود التي نعجز عن تفسيرها، لماذا نتنفس؟! لماذا نحب؟! لماذا نسعد بضحكات أطفالنا البريئة؟! لماذا تكون لجلودنا تلك الرائحة الغريبة عند احتراقها؟! لماذا الماء فقط يروي عطشنا؟! لماذا.....؟! لماذا......؟!

ولكن...

لماذا نكتب؟!

سؤال يبدو لي أنه أزلي، ويبدو لي أيضا أن الأجوبة على تعددها لن تُلغي أبدا أداة الاستفهام التي تسبق كلمة «نكتب» ولا علامة الاستفهام التي تليها، وشخصيا أعتقد أن هناك مئة سبب وسبب لهذا «الفعل» الرهيب!

نكتب... لأن الكتابة إحدى وسائل اكتشافنا ذواتنا المختبئة خلف الركام.

نكتب... لنطرد شياطين الوحشة عن أرواحنا الحبيبة.

نكتب... لتزهر المعاني التي تشكّل قيمنا الإنسانية.

نكتب... لنفهم، نكتب... لنستقيم، نكتب... لإشاعة فن الهدم، نكتب... لنرى، نكتب... لنثبت أننا أحياء فاعلون، نكتب... لأن الحيوانات لا تستطيع فعل ذلك، نكتب... لنتميز، نكتب... لأننا نعتقد أننا نجيد ذلك، نكتب... لأننا لا نريد أن «نقول»، ونكتب... لأننا نريد أن «نقول» ولكن بشكل مختلف، نكتب لنوازن بين الماء والنار في بياض قلوبنا، وبين العقل والجنون، وبين الجفاف وما يتسرب من حقائب الغيم، نكتب... لأن الكتابة من الأفعال القليلة جدا التي يمكن أن نفعلها من دون أن نعاني مشقة إقناع أحد بسبب قيامنا بهذا «الفعل»!!! وهذا السبب الأخير تحديداً هو أجمل الأسباب وأحبها إلى قلبي.

إحساس شهي غامض يتسرب بين الأنسجة عند الكتابة، شبيه بإحساس من يرتكب «علنا» جريمة كاملة، الكل يعرف يقينا أنك المتهم، ولكن دائما يقف هذا الكل عاجزا عن عقوبتك... لعدم كفاية الأدلة!

تهرّب المعاني بين الكلمات، على مرأى من رجال الجمارك القادرين على تفتيش حتى أنفاسك وأخذ عينة منها للتحليل المخبري.

تُشعل الحرائق الكبيرة من دون القبض على أصابعك ملتبسة.

تتعرّى من دون أن ترى نفسك مخفورا بواسطة رجال الشرطة بتهمة مخالفة الآداب العامة.

تُمارس الهدم والبناء من دون الحاجة إلى الوقوف في طابور طويل لأخذ التراخيص اللازمة لذلك من البلديات أو الجهات الحكومية المعنية.

لذة التحدي الكامنة في فعل الكتابة، والقفز على الأسوار، والقدرة على ألّا تكون مرئيا حينما تشاء، لذة لا يضاهيها شيء في الدنيا، ولا يعرف قيمتها إلا من جربها، لذا تبقى هذه المتعة في النهاية متعة ذاتية للكاتب، ولكن هناك متعة أخرى لا تقل جمالا عمّا ذكرت، وربما هي أكثر نفعا من حيث مشاركة آخرين لها مع الكاتب، وهذه المتعة في نظري هي ماهية الكتابة وجوهر الفن بشكل عام.

الكتابة في جوهرها -بالنسبة إليّ على الأقل- هي القدرة على إخراج الأشياء من ثياب «عاديتها» وإلباسها ثياب الدهشة، وهي القدرة على تحويل المألوف إلى آخر يغريك بإعادة اكتشافه، وهي النظر من زاوية مختلفة إلى قطعة حصى مرمية على جانب الطريق، لتعيدها إلى دائرة الحياة بعد أن كانت مُهملة على هامش الوجود، الكتابة هي بثّ الحياة في كل تفاصيل الوجود، وجعل هذه التفاصيل حاضرة في رؤيتنا الجمالية للكون ولأنفسنا، وإعطاء الديناميكية لكل ما هو ساكن وشبه ميت، الكتابة هي اختراعنا الإنساني المدهش لمقاومة الفناء.

back to top