السباق على سورية

نشر في 08-03-2009 | 00:00
آخر تحديث 08-03-2009 | 00:00
 ياسر عبد العزيز كثيراً مما تتكثف اعتبارات سياسية مهمة في لحظة من الزمن فارقة، فتدفع الفاعلين السياسيين في إقليم ما من العالم إلى سباق على طرف بذاته؛ إذ يعرف هؤلاء أن ظروف هذا الطرف باتت ناضجة بشكل ما، بحيث يمكن استقطابه إلى هذه الجهة أو تلك، فتتغير معادلات الصراع في المنطقة، وتزيد فرص تيار فيما تتراجع حظوظ التيار الذي يواجهه.

حدث هذا في منطقة الشرق الأوسط كثيراً، ومنذ الحرب الباردة بين القوتين الأعظم آنذاك الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي، وأخيراً كان ممكناً رصده بوضوح فيما يتعلق بمصر عقب حرب أكتوبر 1973، والأردن فور رحيل عاهله السابق الملك حسين، ولبنان في معظم الأوقات.

الأمر الآن بات يتعلق بسورية، التي بدأ سباق عليها من فاعلين رئيسين في الإقليم؛ أحدهما هو المحور الأميركي، وثانيهما هو العنصر الإيراني؛ إذ يجد الطرفان أن سورية غدت في مفترق طرق حقيقي، وأن عليها أن تقرر أمراً حاسماً؛ إما الاستمرار في سياستها الراهنة، وإما اتخاذ خطوة دراماتيكية تنقلها من خانة العداء للمشروعات الأميركية، وما يساندها من رؤى وسياسات لـ «المعتدلين العرب»، إلى خانة أخرى تبدأ من «عدم الممانعة»، وربما تنتهي إلى شكل من أشكال التحالف والتعاون على خطى شقيقات عربيات سبقن في الهرولة في الطريق ذاته، وحصلن على عوائد لا تبدو سيئة إلى الآن، أو تجنبن ضغوطاً لاتزال دمشق تواجه منها الكثير يوماً بعد يوم.

كانت دمشق تمترست حكماً في موقع مناهض لواشنطن وحلفائها في المنطقة منذ الغزو الأميركي للعراق في 2003، وما تلاه من اغتيال الحريري وخروجها من لبنان، وما أعقبه من عدوان إسرائيلي على ذلك الأخير في يوليو 2006، وصولاً إلى انقلاب «حماس» على السلطة الفلسطينية في 2007، ثم العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة في نهاية العام الفائت ومطلع العام الجاري.

وفي تلك المفاصل كلها كانت دمشق مضطرة إلى التحالف الوثيق مع العنصر الإيراني، وفي بعض الأحيان مع شيء من السياسة القطرية، لتصلب موقفاً يمكنها من مواجهة تحديات خطيرة؛ أهمها يتعلق بالجولان المحتل، وبعضها يتصل بالتجرؤ الإسرائيلي العسكري على أراضيها، ثم استهدافها بالقصف على خلفية إثارة الشكوك حيال مشروعها النووي المزعوم.

وحدث أن وصل أوباما إلى الرئاسة في الولايات المتحدة، مدشناً مقاربة ترتكز على القوة الناعمة، وملمحاً إلى التخلي عن السياسات الشرسة التي انتهجتها إدارة سلفه بوش، وهي السياسات التي اتسم معظمها بالعجز واعتراه الفشل.

وفي غضون ذلك زادت الضغوط الإيرانية على دول «محور الاعتدال» العربية، واستغلت طهران سخونة الوقائع التي شهدها الإقليم، واختلاطها بدماء ضحايا أبرياء في العراق ولبنان وغزة، وربطت بين استباحة اللحم والأراضي والكرامة العربية الإسلامية وبين السياسات التي تنتهجها دول عربية رئيسة، خصوصاً المملكة العربية السعودية ومصر.

ويبدو أن واشنطن والرياض والقاهرة، وعواصم رئيسة أخرى في العالم؛ مثل باريس ولندن، ودول مهمة في الإقليم؛ مثل الأردن وبعض أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية، باتت جميعها مقتنعة بضرورة محاولة «استعادة سورية»، كما غدت متفائلة بأن الظروف مناسبة لمثل تلك «الاستعادة»، في حال تم تطوير حلول مبدعة توفر ذرائع مغرية لدمشق، وتعدها بحل مشكلتها المستعصية المتمثلة في الوصول إلى حل مشرف لمشكلة أرضها المحتلة.

في الأسبوع الماضي، دعا وزير الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل إلى صوغ «رؤية موحدة» للتعاطي مع «التحدي الإيراني»، في أعقاب لقاء ثلاثي ضمه مع نظيريه المصري والسوري، على هامش اجتماع وزراء الخارجية العرب بالقاهرة، تحت عنوان رئيس هو: «تنقية الأجواء العربية».

ثم زار الفيصل دمشق، رداً على زيارة مماثلة قام بها نظيره السوري وليد المعلم للرياض، داعياً الرئيس الأسد إلى زيارة السعودية ولقاء الملك عبدالله بن عبد العزيز، وهي الزيارة التي لا شك سيكون لها ما بعدها على صعيد تنقية الأجواء بين القاهرة ودمشق والرياض، وهي العواصم التي شكلت محوراً رئيساً قاد النظام العربي بقدر من التوازن والتنسيق معتبر بعد تحرير الكويت، وقبل أن تنفصم عراه على خلفية افتراق المصالح والقدرة على الوصول إلى الحلول الوسط، في أعقاب رحيل الرئيس حافظ الأسد ثم غزو العراق واغتيال الحريري والخروج السوري من لبنان.

الإشارات السورية كانت واضحة منذ أعلنت دمشق رغبتها في استئناف المفاوضات حول الجولان مع إسرائيل بوساطة تركية، ثم في إعراب الرئيس الأسد رغبته في بداية مرحلة جديدة في علاقات بلاده بالولايات المتحدة، وفي تقبل إشارات الود الصادرة من الرياض، ومحاولة تخفيف الاحتقان مع القاهرة.

ويبدو أن واشنطن ترعى تلك الخطوات وتوفر لها، من جانبها، الزخم والدعم الضروريين؛ فثمة مسؤولون أميركيون رفيعو المستوى بصدد زيارة العاصمة السورية، وقبلها قام نواب في الكونغرس بأكثر من زيارة، كما بدأت واشنطن في تخفيف الحصار الاقتصادي الذي تفرضه على سورية، بل قامت بتصدير بعض المعدات لها بما يخرق هذا الحصار فعلاً، وثمة صفقات أخرى في الطريق، بما يعني عملياً اختراق قانون «محاسبة سورية» الذي صدر في العام 2004، تمهيداً لمراجعته، وربما إلغائه.

عانت دمشق الكثير من الخيبات من جراء وعود كاذبة وسياسات مراوغة من الولايات المتحدة استهدفت دوماً إيصالها إلى أضعف النقاط التي يمكن عندها عقد مفاوضات نهائية تحسم قضية الجولان وفق حسابات لا تحقق المطالب الوطنية السورية في حدودها الأدنى. وهي أدركت دوماً أن تحالفها مع إيران، وإن كان لا يضمن لها استعادة حقوقها في هذه المرحلة، ولكنه على الأقل يصلب أوراقها، خصوصاً في لبنان وفلسطين، انتظاراً لظروف أكثر تناسباً تمكنها من إدراك حقوقها. ولذلك فقد حرصت على إيفاد رئيس برلمانها الدكتور محمود الأبرش إلى طهران خلال الأسبوع نفسه، للمشاركة في مؤتمر لدعم القضية الفلسطينية، حيث التقى الرئيس الإيراني نجاد، الذي أكد بدوره «عمق العلاقات بين البلدين وأهمية تطويرها وتوسيع آفاقها بما يلبي مصالح البلدين ويعزز قدرتهما على الصمود في مواجهة التحديات».

إذا لم يحدث تطور دراماتيكي جديد وفارق في المنطقة في الآونة المقبلة، فإن سورية ستجد نفسها محل تسابق أميركي- إيراني، وستتعرض لمقاربات وإغراءات كبيرة من دول وجماعات محوري «الاعتدال» و«الممانعة» وعواصم أخرى في العالم نافذة ومؤثرة، وستكون مطالبة بموازنة عرضين رئيسين والاختيار بينهما.

خيارات صعبة على سورية أن تحسمها، خصوصاً أن بعضها يعد بعدم التخلي واحتمال التربص، ولا يقدم عائداً واضحاً ولا أجلاً محدداً، وبعضها الآخر يعد بمكاسب لا ضامن لإدراكها، ولا مدى زمنياً لتحققها، وكلها خيارات لا تخلو من أغراض العارضين ومراوغاتهم.

* كاتب مصري

back to top