انتابتني لحظة صمت وتأمل بينما كنت أتابع مراسم تنصيب الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما، فرمزية الحدث وتاريخيته وتوقيته تجعل من المستحيل اعتباره حدثاً عادياً يتكرر كل أربع سنوات، ومشاهدة مفهوم التداول السلمي للسلطة يتجسد واقعاً تجعل من المستحيل تجاهل إسقاطاته ومعانيه ومقارنته بحال أمم أخرى لا تحظى بما يحظى به الشعب الأميركي من نظام ديمقراطي متجذر في كل مناحي حياته وقائم على فصل السلطات والتوازن بينها.

Ad

ولم يقتصر المشهد على المعاني الكبيرة، بل كان مهيباً حتى بتفاصيله الصغيرة، فمراسم التنصيب التي تم تمويلها بجمع التبرعات الشعبية، والتفاعل الشعبي الصادق بحضور مليوني شخص وسط صيحات الاحتفال وأغاني الكرنفال ومشاركة المدارس والفرق الموسيقية والاستعراضية العفوية، تذكرنا بكم هي زائفة احتفالات وأغاني التقديس التي تفرضها الحكومات على شعوبها وتمولها من خزائن الدولة لتعوض النقص في شعبيتها وشرعيتها. كما كان مذهلاً كيف انتقلت الأنظار في دقائق من رئيس سابق إلى رئيس جديد، وانتقلت معها المسؤوليات والتوقعات، وكان مشهد عمال البيت الأبيض يُحلِّون أغراض أسرة أوباما محل أغراض أسرة بوش، ومن ثم مشاهدة طائرة بوش تغادر واشنطن إلى موطنه في تكساس، تذكر بأن قصور الحكم ملك للشعب وليس لقاطنيها المؤقتين، وأن بالإمكان فعلاً تداول السلطة بسلم وسلاسة.

وكما كان أوباما مختلفاً طوال حملته الانتخابية والمرحلة الانتقالية، كان مختلفاً أيضاً في خطاب التنصيب، إذ تعدى الشعارات الخطابية وتضمن رسالة واضحة لشعبه بأن الاختيار بين الأمان والمبادئ هو اختيار باطل، في إشارة لعزمه إغلاق معتقل غوانتانامو الذي يناقض مبادئ الحرية والعدالة وسيادة القانون التي بنيت عليها أميركا. ووجه رسائل واضحة للعالم بأن «قوة أميركا تنبع من عدالة قضاياها، وقدوتها وقيم التواضع وضبط النفس»، وخاطب العالم الإسلامي قائلاً: «نطمح لنهج جديد قائم على المصالح والاحترام المتبادلين.» رسائل يبدو أنه أراد منها التدليل على جديته في العمل على إعادة أميركا قائدة للعالم من خلال الالتزام بالسلام والديمقراطية وتقديم المساعدات ودخول المعاهدات وتكوين الصداقات والتحالفات.

في مقابلة على راديو BBC استمعت لها في طريقي إلى العمل صباح أمس، برر مواطن نيجيري سفره إلى أميركا لحضور مراسم التنصيب بأنه أراد أن يكون جزءاً من صفحة تاريخية جديدة للإنسانية، في دلالة على ما يحمله تنصيب أوباما من معان كبيرة لكل شعوب العالم. لا شك أن السلبيين والمراهنين على السير عكس اتجاه تطور الأمم سيتسابقون بترديد أسطوانة «سياسة أميركا لن تتغير بتغير رئيسها.» لا بأس، ولكن تكفي الروح الإيجابية التي أتى بها أوباما وتلقفها الناس في أنحاء العالم المختلفة، فكم هو العالم بحاجة إلى بارقة أمل جديدة.

Dessert

أثناء تلاوة القسم الرئاسي، قام أوباما بتصحيح نصه الذي أخطأ فيه رئيس المحكمة العليا. كم هو منعش أن نرى عودة الذكاء والاطلاع والفضول الثقافي أخيراً إلى البيت الأبيض.