لن تمر صورة أعضاء إدارة الإفتاء وعميد كلية الشريعة في جامعة الكويت د.محمد الطبطبائي، وهم يحتلون مقاعد في اللجنة التشريعية والقانونية البرلمانية الأربعاء الماضي، مرور الكرام في تاريخ الكويت. وستظل تلك الصورة تؤرِّخ، لفتح عظيم للأصوليين وعنوان انتكاسة الدولة الكويتية المدنية الحديثة. فلقد سجلت الأصولية الدينية سابقة ورسَّخت عرفاً بوجود ومشاركة البقية المتبقية من حماة الدولة الدستورية الحديثة من نواب التيار المدني، وصمت قوى المجتمع المدني وأصواته المؤثرة على الرأي العام من كتّاب ومفكرين ونشطاء حقوقيين.

Ad

إن جلوس النائبين عبدالله الرومي وعلي الراشد لمناقشة أمر تشريعي ينظمه الدستور والقوانين، ولا يمت بصلة للأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية أو أحكام المواريث، دون ترك الاجتماع أو الاعتراض منهما على الأقل على المبدأ وسكوت بقية زملائهما من التيار المدني على ذلك، هو لعمري ما لم يحلم به أن يتحقق المرشد المؤسس وقائد «الإخوان المسلمين» في الكويت وأبوها الروحي المرحوم عبدالله العلي المطوع، ولا صوت السلف العالي حالياً النائب محمد هايف. لذلك ليهنأ ويرتاح الأول في قبره، وليحتفل الثاني وصحبه بقرب إتمام مهمتهما بدولة السلف الثانية في الكويت بعد الدولة الطالبانية المهزومة في أفغانستان!

فلم يسبق أن حقق الأصوليون في الكويت مثل هذا الإنجاز، فحتى عندما رفعت اللجنة التعليمية تقريرها في عام 1995 بشأن قانون عدم الاختلاط في جامعة الكويت، لم تستطع أن تدعو اللجنة إدارة الإفتاء إلى اجتماعاتها لتدعم حججها أو حتى اللجنة العليا لاستكمال تطبيق الشريعة التي حاولوا أن تكون وسيلتهم لاختراق العملية التشريعية، ولم ينجحوا في ذلك، وكذلك بالنسبة لقانون حق انتخاب المرأة وضوابط الحفلات، واكتفت اللجان البرلمانية المعنية في حينه بفتاوى للإدارة منشورة رداً على أسئلة من مواطنين لعلمها بأن مثل هذه الدعوة تخالف ما استقرت عليه أمور التشريع والعمل البرلماني.

وبينما هذا الحدث الجلل الذي لا تخطئ آثاره العين الفاحصة يُهيَّأ له عبر إعلان اللجنة التشريعية قبل عشرة أيام عن نيتها دعوة إدارة الإفتاء وعميد كلية الشريعة لبحث قضية مالية قانونية، تتعلق ببحث مقترحات شراء مديونيات المواطنين (ولم تُدعَ أي مرجعية دينية جعفرية للاجتماع... فهل لا يوجد من بين المقترضين مَن ينتمون إلى هذا المذهب؟)، لم تلحظ عين دهاقنة الليبراليين هذا الخبر، واختفت أصوات نواب التيار المدني في البرلمان والصحافة ومؤسسات المجتمع المدني، وأصبحت جميعاً «سكتم... بكتم» على غير عادتها، فلا مقالة فصيحة وجريئة من قلم حامي الدولة المدنية الدستورية الأستاذ عبداللطيف الدعيج تذكِّرنا بصولاته وجولاته ضد «هامنعم» وضوابط الحفلات وممارسات الأصوليين خلال العقدين الماضيين، ولا كلمة من مثقف ذلك التيار الأستاذ حسن العيسى ينبهنا فيها بما قاله «برنارد لويس» عن دور الأصولية في تخلف مجتمعاتنا، وبالتالي خطورة ما سترسخه «التشريعية» من جراء فعلتها تلك على الكويت الدستورية المدنية، ولا من الباحث د.ناجي الزيد، وكذلك الأكاديمي د.أحمد البغدادي وزملائهما ممن يمثلون هذا التيار... وبالشكل نفسه كان موقف جمعيات النفع العام المناصرة للتوجه المدني، والتي لا تتوانى عن إصدار بيانات في كل شاردة وواردة تتعلق بالشأن العام... فلقد تجاهلت الحدث وكأنه لم يكن!

وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل يمكن أن يتجزأ المبدأ وفقاً لما نشتهيه؟ وأن يتلون رأينا في كل قضية على حدة؛ فنرفعه عند الحاجة ونغفله متى ما تعارض مع رغباتنا، حتى إن كانت هناك قناعات بأن لقضية قروض المواطنين كلفة عالية على المال العام، ورغم علمنا بالمقابل أن كلفة التلاعب بالمبادئ ستكون أضعافا مضاعفة على الكويت كوطن دستوري مدني حر متعدد، وعلى قدرتنا على إقناع أجيال حالية ومقبلة بمصداقية من يحملون هذا الفكر؟

فرغم ما نلحظه أخيراً من خسائر تصيب التيار الأصولي الديني بسبب تلاعبه بالفتاوى الدينية لخدمة مصالحه، تأتي ردود أفعال التيار المدني بتغييب مبادئه وحجب صوته بمشيئته لتنفر من يبحث عن البديل، وتتساوى مع التيار الأصولي في سلوكه، وتآكل مصداقيته والهالة القدسية التي أحاط نفسه بها، وصورته التي تبهت في الشارع الكويتي يوماً بعد يوم.

إن تخاذل قوى التيار المدني البرلمانية والإعلامية وممثليها في المجتمع المدني في واقعة «التشريعية» بالتحديد وانخراط نواب التيار المدني في لعبة الفتاوى مع الأصوليين لكسب قضية «القروض»، بدأت ترسِّخ قناعات لدى المواطنين، بأن حقيقة الصراع في الكويت لا تتعلق بفكر ومشروع لوطن، بل هو في حقيقته صراع قوى اجتماعية متناحرة قديمة ومستجدة، على الحصص من حصيلة المليوني برميل من النفط التي يصدرها البلد مع بزوغ شمس كل نهار، ويشارك في الصراع ويُخدِّم على أطرافه المتنازعة طيف واسع من نشطاء ونواب وصحافيين وكتّاب وغيرهم، سواء كان ذلك بعلمهم أو من دونه، لذلك أصبحت مصداقيتهم جميعاً على المحك، ويعزّز ذلك ما يراه الناس من اتحاد «السلفي» و«الليبرالي» و«الإخوانجي» على مصالحهم مهما اختلفت الرؤى والمشاريع، ولو كان ذلك على حساب وطن الدستور والحريات الذي يروِّج له يومياً «ربعي» أصحاب مشروع الدولة المدنية الحديثة!