يمتلك المثقف الإسرائيلي الشجاعة أن يقول لأعضاء حكومته أخطأتم وشوهتم صورتنا أمام العالم، وحولتم المعجبين بديمقراطيتنا وحريتنا الى كارهين لنا ولدولتنا. ولا تعتبر الأوساط الثقافية والصحافية والمنابر الفضائية ذلك المثقف خائنا لأسرائيل، ولا مارقا وخارجا على الملة والعقيدة اليهودية. وكل من يمتلك قراءة مختلفة عن الآخر في عالمنا العربي هو خائن وعميل أميركي وعلماني وراجف خائف و و و.

Ad

من المقالات الاسرائيلية الجيدة والتي قدمت صورة مغايرة لواقع الهجوم الأخير على غزة مقالة «ديفيد جروسمان» في جريدة هآرتس الاسرائيلية قبل أيام. ملخص المقال هو أن اسرائيل أثبتت أنها قوية ولكنها ليست على حق. يرى جروسمان أنه «يجب أن نتحاور، فبعد ما حدث في قطاع غزة طوال الأسابيع الثلاثة للهجوم يجعلنا نثبت مرآة نرى من خلالها وجه اسرائيل -الوجه الذي اذا نظرنا اليه من الخارج أو من خلال أناس آخرين- رأيناه مرعبا، سنرى نصرنا في الحقيقة ليس نصرا أصيلا، ولم تشف الحرب ما كان بحاجة الى علاج حقيقي ولكنها عكست المأساة والأخطاء اللامنتهية التي نرتكبها في تحديد وجهتنا».

لا يختلف اثنان في أن ما تركته اسرئيل خلفها لن تبهت صورته بعد صمت الرصاص، ولن يجلب للمستقبل سوى مزيد من الكراهية، ومزيد من ترسيخ أواصر العداء لا الصداقة والعيش المتبادل. لم يترك صوت المدفعية التي صمتت والطائرة التي عادت الى مدرجها سوى صدى الحروب الأبدية على هذه البقعة التي تنام على نكبة وتصحو على أشد منها. لكننا أيضا حين نقف مع الأبرياء الذين يشكلون الحقل الاسود للحروب ويدفعون فواتيرها دما ودمعا، علينا أن نثبت مرآتنا الخاصة لننظر الى وجوهنا المهزومة، وجوهنا التي تستجدي العطف والشفقة حتى من عدوها.

نحن الشعوب الوحيدة التي تعتمد حساباتها النهائية على ماذا يمكن أن نستفيد من الهزيمة؟ كيف نبدل الدماء مواقفا لصالحنا؟ كم قصيدة شعر سنكتب للنكبة الجديدة والنكبة القادمة؟ في المقابل ينصرف الآخر للاستفادة من نصره ومن صراخنا عليه بأننا انتصرنا ووعودنا المهترئة له بهزيمته قريبا جدا.

ما نفتقده هو الحساب الابتدائي لحروبنا الطائشة. لو سألت أي مسؤول في حركة حماس عن عدتها التي أعدتها للحرب فلن تجد سوى الخطابات والاعتماد على صبر الناس وجلدهم في المأساة. فالبيت الفلسطيني الداخلي ممزق ولو امتلك فلسطينيو الضفة والقطاع جيوشا حقيقية لانهارت الضفة والقطاع كما انهارت غزة، ولن توجه مدافعهم الى اسرائيل، نعم تلك مرارة العقل العربي ولكنها حقيقته أيضا.

قبل أن نشرع في الحرب يجب أن نعد الانسان العربي اقتصاديا وسياسيا وفكريا، وهي مهمة لا يريدها أحد ولا ينتبه اليها أحد. كيف يقاتل الأمي والفقير والجاهل وان قاتل فكيف ينتصر. نحن بحاجة الى هدنة طويلة زمنيا نستطيع خلالها أن نرتب البيت المتهالك والمتناحر، هدنة طويلة مع الذات والآخر الذي نختلف والذي نناصبه العداء. هدنة طويلة نحتاج اليها لنفهم قدراتنا وننميها. هدنة لترميم خطابنا ومضامينه وتنقيح الغلو والمكابرة واللغة المقاتلة فيه والتي يصدقها الآخر، رغم أننا نعلم أنها مضامين تراثية جبلنا عليها ليس الا. هدنة طويلة ننظر فيها الى وجوهنا ونحن نحتفل «بالنصر». هدنة تسمح لنا بأن نخلق الفرصة لنصر حقيقي. هدنة تخرجنا من هذا الرسوخ الطويل في الجهل، وان كان لابد من التراث فلنستمع الى شاعر العرب وحكيمها:

ومن لا يصـــانــع في أمـــور كـــــثــيرة

يضــرس بــأنيــاب ويــوطأ بمنســم