د. طارق البشري: العولمة ليست عقبة أمام تجديد الفكر الإسلامي
يعد المفكر الإسلامي د. طارق البشري أحد الوجوه اللامعة في مسيرة الاجتهاد الديني، فهو صاحب الاجتهاد المهم في التأصيل الإسلامي لمبدأ المواطنة كذلك تبنى إقامة حوار بين التيارين الإسلامي والعلماني، أكسبته الخبرة القانونية، حيث عمل كقاض ثم رئيس لمجلس الدولة. له رؤية واضحة المعالم لساحة التيارات الفكرية والسياسية في مصر والعالم العربي، وله أحكام وفتاوى تاريخية من أهمها جواز تأسيس الأحزاب على أساس المرجعية الإسلامية. «الجريدة» التقت د.البشري في الحوار التالي.
كيف يمكن التجديد في الفكر الإسلامي في ظلّ العولمة؟العولمة بانفتاحها لا يمكن أن تكون عقبة أمام تجديد الفكر الإسلامي، فالتجديد هو أن يستجيب الفكر للتحديات التي يفرضها الواقع في مرحلة زمنية معينة، وشروطه تتلخص ببساطة في أن يكون التجديد بالمادة الفكرية ذاتها ومن داخلها. في تصوري، أدوات التجديد موجودة من قديم وفي كل مذهب ستجد أدوات التجديد وآليات فكرية وعقلية من داخله حتى المذهب الحنبلي والظاهري اللذين يرفضان القياس تماماً، لذا هناك قضايا إذا أردنا فيها حكماً ملائماً لعصرنا قد نجدها في المذهب الظاهري لأنه يعتمد على الإباحة المطلقة في ما بعد النصوص. المشكلة أننا لم نتمكن من وضع موجات الإصلاح على هذا الطريق بسبب جعل المؤسسة السياسية تتصارع مع مؤسسة الإصلاح الفكري، حيث ضربت حركة الإصلاح السياسي حركة الإصلاح الفكري في الصميم وأوقفتها وحددتها، في وقت كان الفكر الغربي الفلسفي يرمي بذوره في تربتنا وبدأت تظهر أنماط المعيشة الغربية غير الملائمة للقيم والعادات الإسلامية، وهنا كان للقوى المحافظة دور إيجابي عليها أن تلعبه وحدث الصراع بين القديم والحديث بين المجددين والمحافظين وكل منهم يريد أن يتلاءم الفكر مع تحديات الواقع القائم، فالمحافظ يريد أن يثبت الأصول التي أصبحت في خطر في مواجهة التجديد الذي يريد أن ينفي تلك الأصول وينحيها عن الواقع، وبظهور الحركات الإسلامية الحديثة كان المثل الاجتماعي لكثير من المثقفين والحركات الشعبية وافداً من الغرب، وأصبحت الحركات الإسلامية أكثر توغلاً في الإحساس بضرورة الدفاع عن الأصول ومواجهة من يريد حصر الإسلام في المسجد، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه. كيف نحافظ على الأصول، وفي الوقت نفسه نجدد الفكر، لا أحد يرفض التجديد، لكن إذا كانت دعوة التجديد مرتبطة بأهداف وبأجندة خارجية فهي مرفوضة لأنها تعد دعوة للتحكم الثقافي وتغيير مناهج التعليم. فكرة التجديد، سواء في التعليم أو الثقافة، شأن خاص بنا ولا نجدد إلا وفق احتياجاتنا ومن داخل نظمنا الفكرية والثقافية وأدوات التجديد المناسبة لنا.إذاً ثمة ضرورة للتجديد عموماً؟ما هو ضروري في التجديد مُمارس منذ بداية القرن العشرين حتى اليوم، بل قبل محمد عليّ. لا يوجد عصر إلا ويوجد فيه تجديد. تُطبق الشريعة على معاملات الناس ويوجد قدر من الأصول النصية والفكرية الثابتة، ولو جاء اثنان متنازعان للقاضي ليحكم بينهما فلا بد من أن يكون مجدداً حتى يحل مشاكل الناس، ولو كان فكره منعزلاً عن الواقع ومشغولاً بفروض غير واقعية - وهناك من كان يفعل ذلك- فمن الطبيعي أن يتجمد ويُزاح، والبعض كان أكثر عمقاً ويجدد معتمداً على المناهج العقلية الفكرية.يجب أيضاً التأكيد أن التيار الإسلامي بدأ يأخذ في اعتباره مسألة الديموقراطية، فبدأ يصبح شعبياً أكثر منه سلطوياً واهتم بهذا الموضوع من الناحية الوظيفية، ويشعر بأن التمييز ما بين الجانب الأيديولوجي والجانب التنظيمي مهم ويمكن الفصل بين الاثنين. لا أتخذ الديموقراطية كسياسة أمة بحيث لا تخرق سقف المرجعية الدينية، لكنني آخذها على أنها مشروع تنظيمي يحقق مبدأ القرار الجماعي والتعبير الحر للتكوينات الاجتماعية المختلفة.إذًا، المشكلة ليست في الخطاب الإسلامي؟ليست ثمة مشكلة من الناحية الفكرية الإسلامية. المشكلة لا تكمن في بناء الفكر الإسلامي، لكن الخطر الخارجي له تأثير كبير لأنك عندما تنشئ دولة مستقلة وطنية تواجه ألواناً من الضغوط الخارجية ومؤامرات في الداخل، بحيث تكون مشتتاً بما فيه الكفاية، فمثلاً ما يحدث في مصر والعراق ومشاكل الجنوب في السودان، ذلك كله سيُحدث نوعاً من المشاكل من ناحية المؤامرة الخارجية بحيث أن الحلول السريعة التي تلجأ إليها الدولة تفشل وتنهزم نتيجة لتسرّع الحكومات المركزية أمام مشاكلها.يثار التناقض دائماً عند الحديث عن الجماعة الإسلامية والجماعة العربية. ما رؤيتك لذلك؟يثار التناقض عندما تتضمن الدعوة إلى القومية العربية العنصر العلماني، وهذا يحدث أحياناً، فمن يتكلمون عن العروبة ويريدون أن يصوغوها على أساس أنها جماعة علمانية، وأنه يتعين على فكرة الوحدة العربية أو وحدة العروبة أن تنحي الدين جانباً، كأساس لمرجعيتها السياسية والاجتماعية والعقدية والسلوكية. يثار الخلاف بسبب الفكرة العلمانية، لأن الفكر الإسلامي يعترف بالعروبة وغالبية المفكرين المحدثين كالشيخ الغزالي ود. يوسف القرضاوي وقبلهما السيد رشيد رضا كانوا يعترفون بالعروبة من موقع إسلامي، وهكذا كانت المعارضة أساساً تتعلق بالصبغة العلمانية التي تريد أن تحصر العروبة في نطاقها. أعتقد أن تلك النقطة أيضاً أثيرت وأدت إلى مشكلة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي بين المفكرين الإسلاميين ذاتهم، وعلينا أن نكون منتبهين إلى أن مشكلة الفكر الإسلامي ليست مع الدعوة إلى العروبة دائماً ولكن مشكلته مع الوصف العلماني الذي يراد أن يلصق بالعروبة، وعلينا أن ننحي هذا الوصف عن العروبة، وبذلك يمكن أن نحقق نجاحاً في دعم أوضاع المشاركة بين القومية بوصفها إسلامية وعربية.ذكرت في كتابك «الجماعة الوطنية» أن الجامعة السياسية التي شكلت وعي النخبة في القرن التاسع عشر هي الجامعة الإسلامية، كيف أسهم ذلك في تكوين ثقافتنا المعاصرة؟التكوين الثقافي والفكري الإسلامي عميق الجذور في بنائنا الثقافي المعاصر على المستوى الجماعي والفردي، فالإسلام ليس مجرد عقيدة فحسب ولكنه أيضاً تاريخ ثقافي ونحن أمة خرجت من بين دفتي القرآن الكريم، والثقافة القرآنية تتمثل في التفاسير وفي تاريخ الفقهاء والمؤرخين الإسلاميين وثقافتهم، وقد كانت لهؤلاء رؤية لإشكاليات الدنيا في إطار الارتباط العقدي، فعندما تقرأ ابن خلدون تجد امتزاجاً بين الفكرية الفقهية الشرعية وبين النظر في المجتمع وإدراك قوانين الحراك الاجتماعي والقواعد التي يسير بها العمران وتجد الامتزاج بين الانتماء العقدي ورؤية الواقع المعاش بشكل فذ. عندما تقرأ كتب الفقه الإسلامي تجد قدراً كبيراً جداً من المعالجة لمشاكل حياتنا المعاصرة، والفقه الإسلامي لم يكن فقهاً بالمعنى القانوني الضيّق لكن كانت له نظرات فكرية واجتماعية بالإضافة إلى أن كتب الفقه تتضمن أيضاً مادة تاريخية وهي حقائق يجب أن ينتبه إليها الباحثون في علوم الاجتماع وينظروا إلى الفقه الإسلامي من تلك الزاوية، بالإضافة إلى أن الثقافة الإسلامية مستوعبة لأوضاع المجتمع، فعندما نقرأ كتاباً مثل «الأحكام السلطانية» للماوردي نجد فقهاً لكن نجد أيضاً فكراً سياسياً، فعندما يتكلم عن أشكال تولّي الإمارة يقول إنها بالبيعة أو بولاية العهد، وهذا فقه، أو بالتغلب هنا تحديداً يتكلم عن ممارسة سياسية لأنه يرى أن أشكال تولي الحكم في ظل أوضاع المجتمع القائمة ليس بالبيعة أو بولاية العهد فحسب، لكن أيضا بالتغلب، فهو هنا لا يضعها باعتبارها قاعدة فقهية ولكن قاعدة مشابهة لما ندرسه في العلوم السياسية الآن، وهذا يرجع إلى تقسيمات العلوم التي كانت سائدة وقتها، فعلى الرغم من أنه كتاب للفقه إلا أنه يحتوي على قواعد للعلوم السياسية والفكر السياسي.لماذا فشل مسلمو اليوم في بناء حضارة قوية كالتي بناها مسلمو الأمس؟ ما يواجهنا في العصر الحديث وخلال المائتي عام الماضية، هو مشكلة الدفاع عن الأمة الإسلامية وإزالة الأخطار الخارجية التي تواجهها وتحرير إرادتها السياسية، وفي فترة من الفترات كان على الإسلام أن يحافظ على ثوابت المسلمين وقيمهم في مواجهة الغزو الأجنبي، فدعاوى المقاومة والتحرير هي في أساسها إسلامية، وعلى مدى هذين القرنين كان يحتضنها الإسلام ويعبئها ويرسم نطاقها، ويحصن عليها، وتلك هي المشكلة الأساسية التي واجهتنا كمسلمين، حيث طغى الانشغال بمواجهة مخاطر الغزو على أرضنا ومعتقداتنا وقيمنا على خلق حضارة إسلامية جديدة في هذه الفترة.هل استطاعت القيم الإسلامية إصلاح المسلمين طوال تاريخهم؟ أقامت القيم الإسلامية أمة، ولا أقول دولة، وحضارة وفكراً على مستوى عال من القدرة التجريبية والتجاوب مع الواقع ومواجهة التحديات التاريخية والفكرية ومحاولة حلها، ولن أتكلم عن الجانب التاريخي كثيراً لأنه معروف، ولا يمكن أن ينكره إلا جاحد أو جاهل، فالتاريخ يقول: أقامت القيم الإسلامية أمة، وهذه الأمة ظهرت كدولة تحت مظلة القيم الإسلامية التي نجدها اليوم في ما يزيد على المليار نسمة، واستطاعت تلك القيم أن تحفظ هذه الأمة من الضياع والتفكك ونسيان عقيدتها، وبقيت على رغم كل المحن التي توالت عليها متمسّكة بدينها وبتراثها الحضاري، سواء الفكري أو القيمي، ومترابطة على أساسه، وتجد فيه العون في مقاومتها لأي مخاطر خارجية وفي استعادة نهضتها الحضارية. لكن هناك من يقول إننا لم نستطع تقديم نظم إسلامية مستنيرة؟تحوّل المسلمين لفرق إسلامية طوال هذا التاريخ وبقاء الأمة الإسلامية إلى اليوم دليل واضح على نجاح النهج الإسلامي، لأنه استطاع أن يعطي فسحة كبيرة جداً وواسعة لوجود خلافات بين المسلمين وبقائهم متحصّنين في الإطار الإسلامي العام، بمعنى أن الإسلام أوجد قدراً من التحدي التاريخي من داخله لمواجهة الانقسامات بين المسلمين، فالخلاف القوي الذي حدث بين أهل الحديث وأهل الرأي في القرنين الأول والثاني الهجريين، كان من الممكن أن يؤدي إلى قيام أمتين، وتداعيات هذا الخلاف كان من الممكن أن تصل إلى انشقاق كبير في الفكر الإسلامي بين أهل الرأي وأهل الحديث، ومع ذلك ترابطوا وخضع كلاهما لحدود الوعاء الإسلامي الشامل من الناحية الفكرية.أعتقد أن الإمام الشافعي قام بدور عظيم ومهم جداً عندما قال للمجتهدين طالما أن باب الاجتهاد مفتوح، فلا بد من أن نضع قواعد لهذا الاجتهاد، ووضع له أسساً وقواعد، وقال للمحدثين: أنتم أهل حديث تريدون اتباع الأثر والحديث، فلنضع قواعد تحقيق الحديث؛ وبهذا ترابط المسلمون، مجتهدوهم وسلفيوهم ومجدّدوهم. كذلك واجه المسلمون خلافاً بين الشيعة والسنة وبلغ هذا الخلاف بينهم خلافاً أساسياً وليس في الفرعيات، لكنه لم يصل إلى حدود إنكار أي فرقة منهم لإسلامية الأخرى، وبقي الوعاء الإسلامي قوياً ومتيناً، حيث جمعهم على رغم هذا الخلاف القوي وما زال يجمعهم بإذن الله.ما تقييمكم لظواهر التطرّف والعنف التي تثور بين الحين والآخر؟تلك الظواهر موجودة فى أي مجتمع، كذلك لا يعني العنف التطرف، ذلك أن الأخير يتعلق بالغايات والأهداف، بينما العنف يتعلق بالوسائل والأساليب. التطرف في ظني وصف يرد من قياس الأهداف السياسية والاجتماعية والثقافية لتنظيم أو تيار معين، يحاول إدخال تعبيرات معينة في بنية المجتمع السياسية أو الاقتصادية أو الفكرية، ومن هنا يقاس وفقًا للأهداف التي يسعى إلى تحقيقها اتجاه معين، وحجم تلك الأهداف، ومدى بعدها أو قربها من التكوينات السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية السائدة. عندما نتحدث عن التطرف أو الاعتدال ينبغي أن ندرك أن كل دعوة فكرية أو سياسية أو اجتماعية تحمل في طياتها إمكانات تطرف أو اعتدال، وكل دعوة هي مطلب للتغيير في اتجاه معين، ويختلف المؤمنون بهذا التوجه بين بعضهم بعضًا في حجم التغيير المطلوب أو في سرعته، ووفقاً لهذا الاختلاف ينقسمون إلى متطرف ومغال ومعتدل، وقد يكون العنف مؤشرا على التطرف حيث تقوم علاقة طردية بينهما، لكن ذلك لا ينبغي أن يوقعنا في الخلط بينهما وعدم التمييز، وذلك إذا أردنا أن نفهم ونعالج أي مذهب سياسي اجتماعي أو تيار ما، يمكن أن تظهر فيه أجنحة عنف وأجنحة سلمية، ويجب دراسة كل ظاهرة فى إطارها وعدم المبالغة فيها.التيارات الفكرية الرئيسة لدينا هي الفكر القومي والماركسي والليبرالي والإسلامي، ما هي الطروحات والقيم الفكرية الكبرى التي يطرحها المشروع الإسلامي؟تكمن الأرضية الفكرية المشتركة بين تلك التيارات في الإطار الوطني، ويشكل أرضية كبيرة، لكن كل منها يصدر في هذا الشأن من خلال مرجعيته، وما يميز الفكر الإسلامي أن لديه مرجعية تصل إلى الحلول الديموقراطية والوطنية الملائمة لإصلاح الحاضر تختلف معها أو تتفق، لكنها في النهاية حلول تطرح أفكاراً لأوضاعنا من خلال المرجعية الإسلامية، وأتصور أن حركتنا الفكرية والوطنية والإصلاحية حتى بداية القرن العشرين كانت تصدر عن مرجعية إسلامية وكانت التيارات الفكرية على رغم تعارضها، تجتهد في طرح ما تراه من حلول من خلال المرجعية الإسلامية. من ثم كانت تلك المرجعية الإسلامية تمثل عاملاً مشتركاً بين الأطروحات الفكرية المختلفة حتى بدأت المرجعية تختلف بحكم التعليم الأجنبي والتعليم الوضعي الذي بدأ يسود في مصر، فبدأت المرجعية الوضعية تسيطر في التعليم والسياسية ومع التغيير القانوني الذي حدث مع نهاية القرن التاسع عشر أصبحت المرجعية القانونية مرجعية وضعية، فبدأت المطالبة بالإسلام كمرجعية، لهذا كانت المرجعية الإسلامية مشتركة مع بقية المرجعيات الفكرية الوطنية الأخرى، لكنها تريد أن تصدر من خلال الإسلام باعتباراته الأكثر قدرة على تحريك الناس وعلى جمع الفصائل الفكرية الأخرى في المجتمع لتحقيق الأهداف الإصلاحية، إضافة إلى أن المرجعية الإسلامية مطلوبة في حد ذاتها دينياً بالنسبة الى المسلمين.لكن ماذا عن الأقباط؟تشكلت المواطنة الحديثة في بلادنا في مواجهة الاستعمار الأجنبي وتشكلت في إطار الحركات الوطنية التي تعمل للاستقلال، ومن ثم فهو عنصر سياسي تشكل فيه مركز قانوني، بمعنى أن هناك احتلالاً أجنبياً تجمعت الجماعات المقيمة في مصر لمقاومته وتحرير إرادتها الوطنية منه. تشارك في ذلك المسلمون والأقباط، ومن خلال عملية المشاركة داخل الجماعة الوطنية تكوّن مبدأ المواطنة بهذا الشكل المجتمع لكل الجماعات ذات الأصول الفكرية والعقيدية المختلفة للدفاع عن وطنها. من الناحية الفقهية الإسلامية، تصوّرنا أن المساواة تنشأ بين المواطنين جميعاً من خلال فكرة الولاية العامة وهي النظم الحديثة التي لا تتعلق بالأشخاص ولكن بالمؤسسات، فنجد مثلاً البرلمان يصدر قوانين والمحكمة مكوّنة من دائرة من قضاة عدة، والقرار السياسي يصدر من مجلس وزراء، فالقرارات الجماعية تصدر من مجالس تكون فيها الولاية للمجلس نفسه وليس للأفراد. من ثم فإن القرار الجماعي يحل محل القرار الفردي وأصبحت الولاية بالمعنى الجماعي والمؤسسي تحل محل ولاية الأفراد، ومشاركة المسلمين والأقباط على قدم المساواة في هذا الشأن قائمة حتى في إطار المرجعية الإسلامية.لكن ألا يتعارض ذلك مع مفهوم الذمة؟أهل الذمة اجتهاد فقهي نشأ في العصور الإسلامية باعتبار أن غير المسلمين مِمَنْ يتصافون مع المسلمين هم في ذمتهم وفي ذمة الله ورسوله، فلفظ الذم تجاوزناه إلى مفهوم المواطنة. يعتبر مفهوم المواطنة أن من نسبغ عليهم وصف المواطنة يشاركون على قدم المساواة في إدارة شؤون بلادهم.ماذا عن الاحتقان الطائفي بين الأقباط والمسلمين في مصر؟أود التأكيد أنه طالما كان هناك ضغط أجنبي علينا فسيكون لتطبيق فكرة «فرّق تَسُد»، وسيحاول دائماً من يفرق بيننا وعلينا أن نثري كفاحنا الفكري والثقافي ضد تلك الضغوط وأن نزيد عُرى التلاحم بين المسلمين والأقباط، حتى لو وجدت قيم ثقافية تنشأ وتتولد بقصد إثارة الفتنة يجب أن تجتهد الجماعة المثقفة لإعلاء القيم التي تؤدي إلى تلاحم المسلمين والأقباط ومحاربتها.حوار فكريأنت من أبرز المجتهدين لإقامة حوار فكري بين التيارين الإسلامي والعلماني، ما دافعك إلى ذلك؟ وماذا عن المسائل الخلافية؟يهمني إقامة حوار بين الإسلامية الوطنية والعلمانية الوطنية، الهدف الأساسي منه إيجاد أرضية فكرية مشتركة بين التيار الإسلامي والعلماني, فكلا التيارين يبغي الاستقلال لبلده وتحرير الإرادة الوطنية والصالح الوطني العام لمصر والبلاد العربية. المشكلة أن هذا الحوار على مدى 25 سنة مضت كان حواراً سلبياً لأنه افتقد الإحساس بالأولويات التي يتعين علينا مراعاتها وهي قضية التنمية والاستقلال الحقيقي.أوضحت في بعض كتاباتي كيف ندير حواراً من هذا النوع وحددت ثلاثة شروط، أولها أن الحريات تقف عند حدود الحقوق بمعنى أن حريتك في التنقل تقف عند حقي في أن أمنعك من دخول بيتي كمثال، والشرط الثاني أن الحق الفردي يقف عند حدود الحق الجماعي، والحق الذي يتاح للجماعة الأصغر يقف عند حدود الحق الذي يُتاح للجماعة الأكبر. الشرط الثالث هو أن الحق النسبي يقف عند حدود الحق المطلق لا يبقى منه شيء فإذا قلت لي مثلاً إن لفظاً واحداً من الألفاظ التي وردت في القرآن تاريخي لن أجد عندي معياراً يُثبت ديني, فالقرآن دليل ثبوته من داخله وليس من خارجه «إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون». بالنسبة الى المسائل الخلافية أقول دائماً يجب أن نراعي الشروط التي ذكرتها من قبل، لكنني أؤكد أن القرآن هو نص نزل من السماء إلى الأرض وهو خارج الزمان وسيبقى معنا إلى آخر الزمان. شخصياً أرى أن حجم التناقض ليس الأساس، لكن في ترتيب الأولويات بين التيارين.