رحباني: يا قصة عز علياني... ويا معمرة بقلوب وغناني

نشر في 19-01-2009
آخر تحديث 19-01-2009 | 00:00
 لمى فريد العثمان نكبر وكل شيء فينا ومن حولنا يتغير... وحدها موسيقى وكلمات الأسطورة الرحبانية تبقى جديدة مهما قدمت، تكبر فينا، تصبح جزءاً من هويتنا... ملاذنا، مزاجنا، ذاكرة طفولتنا، أحلامنا الصغيرة والكبيرة، نسمع من خلالها أصوات أحبابنا الذين رحلوا عن عالمنا، ليغمرنا الحنين والشجن ببساطة كلماتهم الذكية وثراء ألحانهم الشجية، لتنقي قلوبنا وتطهر أرواحنا، وترسخ فينا بساطة الحياة وتعمق فينا الحب والسلام، وتسكننا السكينة والطمأنينة، وتعيد إيماننا بكل شيء جميل، هكذا يتوغل مفعول السحر الرحباني في الأعماق والوجدان.

الثالوث الرحباني، عاصي ومنصور وفيروز، رسموا منذ ما يقارب خمس وستين سنة ملامح فلسفة جديدة تحارب بالفن والموسيقى والشعر والغناء والدبكة والمسرح، صنعوا ثقافة وحضارة لم تقتصر على لبنان فحسب، بل امتدت إلى أنحاء العالم العربي، وبنوا حكاية الوطن الرحباني الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بروعة الألحان ورقة الكلمات وعذوبة الصوت، التي وصلوا بها إلى القمر فغنوا «نحنا والقمر جيران... بيتو خلف تلالنا... بيطلع من قبالنا... يسمع الألحان»، فتحدثوا لغة الفن وآمنوا برسالتها الأخلاقية والاجتماعية والسياسية، ولسان حالهم يقول: «يا عالمنا القديم ندر علينا تتغير... لا الحقيقة بتتخبا ولا الحرية بتتأخر... ما يوقف بوجه الكلمة... لا خيل ولا سيوف ولا عسكر».

وفي الوقت الذي فشلت فيه السياسة وأدواتها، نجح الرحابنة في الوصول إلى القلوب والعقول والذاكرة، وزرعوا في الناس حب الحرية والتعلق بالأرض وعشق الطبيعة برغم الخراب والدمار والألم، وجمعوا الناس بسطوة الفن والعواطف بعد تفرقهم بعبث السياسة والطوائف، مرددين «هون رح نبقى... ونسعد ونشقى... نزرع الشجرة وحدّا الغنيّة... وللدني نحكي حكاية إلهية»، فغنوا بحنان وحنين للوطن والفرح والحزن والإنسان والطفل والشجر والليل والقنديل... ليكتب اسمهم خالدا على «الحور العتيق». ورحل «الغريب الآخر»... رحل منصور الرحباني عن دنيانا ليلحق برفيق دربه عاصي... رحلوا بأجسادهم وبقيت ألحانهم الموجعة بجمالها... لنتورط بها ، بأشجانها وحنينها، بإمبراطوريتهم التي تكتمل بعبقرية الكلمة واللحن والصوت... تفرحنا أحيانا وتحمل الدمعة لمآقينا في أحيان أخرى... وتحلو «سهرتنا» مع ألحانهم أحيانا كثيرة.

يرحل منصور في وقت يحرق فيه أطفال غزة ويدفنون تحت الحطام... ونحن لا نملك شيئا سوى ترديد البكائيات الرحبانية: «الطفل في المغارة... وأمه مريم... وجهان يبكيان... لأجل من تشردوا... لأجل أطفال بلا منازل... لأجل من دافع واستشهد في المداخل... واستشهد السلام في وطن السلام».

لن نقول وداعا يا منصور... فهل تودع الشمس؟ وأنت القائل: «تقترب النهاية/ تصرخ الأبواق/ يا فرح الوصول، يا نهاية الرواية/ فلنتحد بالضوء بالدوائر المشعة»، فشمس إبداعكم قوية الحضور والنور... تضيء ظلمة مدننا... وسنظل نتذكركم بحنين وننشد «سنرجع خبرني العندليب غداة التقينا على منحنى... بأن البلابل لما تزل هناك تعيش بأشعارنا... ومازال بين تلال الحنين وناس الحنين مكان لنا».

سنتذكركم حين تهل علينا رائحة الصنوبر... وحين تعم «ليالي الشمال الحزينة»، فلن يسدل الستار بعد رحيلك يا منصور، كما في نهاية مسرحياتك، بل سيبقى مرفوعا لأجيال وأجيال، وستظل خبطة الأقدام على المسارح الخشبية... ليهتز بها الوجدان... وتتشابك الأيدي، لترسخ الحب والفرح والسلام، لنردد معهم «خبطة قدامكم على الأرض هدارة... إنتو الأحبة وإنتو الصدارة». فيروز... لك البقاء والعمر الطويل لتخبرينا «عللي صاير بلكي بيوعى الضمير».

back to top