سوء تقدير ورهانات خاسرة

نشر في 14-05-2008
آخر تحديث 14-05-2008 | 00:00
 علـي بلوط

إن استمرار الرهان على الخارج هو، باعتراف الجميع، رهان خاسر ومدمّر، والدليل أن الغرب أثبت عجزه عن تحويل محبته لـ«لبنانه» إلى حاملات طائرات وصواريخ عابرة للقارات، وجيوش جرارة لاستنساخ عراق جديد أو غزة جديدة، واكتفى بالتصريحات التأييدية لحكومة السنيورة.

في العمل الصحفي، تفضيل الأهم على المهم هو مبدأ ثابت. لذلك سأتوقف مؤقتاً عن متابعة عرض خفايا مأساة طارق عزيز مع رئيسه صدام، وهذا مهم، وأنتقل إلى محاولة رسم صورة مأساة لبنان مع حكامه وسياسييه، وهو الأهم.

***

وقف إطلاق نار شامل، هدوء حذر، طرق سالكة وطرق نصف سالكة، الهدوء يخيّم، وقف إطلاق نار مازال ساري المفعول، إلى آخر هذه الجُمل الكلامية الفارغة من معانيها المطمئنة لكل من يريد أن يخرج من بيته طلباً للرزق الذي أصبح عملة صعبة جداً في هذه الأيام، كل ذلك يعني شيئاً واحداً أن نيران الأزمة أُطفئت على السطح، لكنها لاتزال مشتعلة في الباطن، تنذر بانفجار البركان في أي لحظة أو ساعة أو يوم. وهذا الوضع القلق يزيد كمية الخوف عند المواطن العادي، لأن حدوث المصيبة أهون على النفس من توقعها.

ذلك هو الوضع في لبنان اليوم وسيبقى هكذا إلى أن تحدث «المعجزة» ويجلس الفرقاء الذين يختلفون على كل شيء، لكنهم يتفقون على تدمير هذا البلد الجميل بشعارات رنانة، طنانة، لا تمتّ إلى مصلحة المواطن المسكين بأي صلة. والجلوس حول طاولة الحوار المطلوبة يجب أن تسبقه وترافقه صفاء النوايا، لا المناورات و«التكاذب» و«التخابث» التي هي من شيم المرحلة ولله الحمد.

وبهذا تكون النبوءات الخبيثة قد صَدَقـَت، حيث التنين الأسود المتعدد الرؤوس لايزال يحاول أن يبتلع لبنان، كما ابتلع من قبل القمر حسب الأسطورة. وبذلك سقطت كلمات الشعر الفخرية بلبنان، وجمال لبنان، وقدرة اللبنانيين وقوتهم ومتانتهم وثقافتهم. تلك المرحلة الشعرية التي قادها شاعرنا الكبير سعيد عقل في شبابه، ثم تراجع عنها عند بلوغ عقله سن الرشد. ومن شعره الفخري ما يضحك ويحزن في آن واحد: «من هَونْ من سفح الجبل طرطشنا الدني علم ونور... ولبنان شو لبنان، هَلكم أرزة العاجقين الكون، ومن قبل ما في كون كانوا هون».

واليوم، في ضوء ما حدث، وما يمكن أن يحدث، من الضروري طرح أسئلة ومحاولة الإجابة عنها في إطار المعطيات الموضوعية المتوافرة، من أجل قراءة سليمة لهذه الأحداث وتطوراتها.

والسؤال الأول لماذا أقدمت حكومة السنيورة على التلويح باللون الأحمر أمام «ثور» نصف هائج بعد أن نجحت خلال السنتين الماضيتين في تنويمه، وهل كان الأجدر والأجدى بها أن تبقيه مخدّراً، طالما هي جالسة سعيدة في السراي، وممسكة بأوراق لعبة الحكم كلها، وهل صحيح أن وليد جنبلاط وضع السنيورة بين فكي كماشة: إما الموافقة على فتح ملف سلاح المقاومة بدءاً من موضوع سلاح الإشارة أو استقالة وزرائه مما يعني نهاية الحكومة؟

سأحاول الردّ على النصف الأخير من السؤال: لو لم يكن السنيورة موافقاً على ما طلبه جنبلاط لكان بإمكانه مواجهة مناورة التهديد باستقالة وزرائه بتهديد أكثر عنفاً وهو استقالته هو، مع معرفته بأن جنبلاط متمسك ببقائه ربما أكثر من السنيورة نفسه. أما القسم الأول من السؤال فليس لدي وربما لدى الآخرين إجابة كاملة، بل تساؤلات كثيرة تزيد الإجابات حيرة. الإجابة الحائرة هي أن السنيورة وشركاءه فوجئوا بردّ فعل «حزب الله» والمعارضة بعد أن راهنوا بكل ما لديهم على أن «الثور» نصف المخدر لا يقوى على الحركة الكاملة، وبذلك يستطيعون من خلال القرارات التي أصدروها أن يسجلوا نقطة استراتيجية مهمة يمكن استثمارها فيما بعد لتدجينه بصورة نهائية.

وفي المقابل فإن «حزب الله» وشركاءه فوجئوا أيضاً بقرارات الحكومة التي أحدثت صدمة قوية أيقظتهم وأزالت ما تبقى من تأثير المخدر، فسارعوا إلى التصرف، حسب الخطة الموضوعة سلفاً، وكان ما كان من انهيار كامل للعضل العسكري للموالاة الذي طالما تغنوا به بمناسبة وغير مناسبة. ومن هنا جاءت كلمة سعد الحريري بأن ما حدث هو «سوء فهم» بينما كان بإمكانه أن يقول إنه «سوء تقدير»، إذا أراد أن يصيب الحقيقة في كبدها. وكذلك فإن جنبلاط الذي سارع إلى «الهروب» من المعركة واللجوء إلى منزله في كليمنصو كان عذره أنه لا يملك ميليشيا موازية لـ«حزب الله» ففضل الهروب بما عنده لاستخدامه في معركة أخرى، وفي يوم آخر. وسوء التقدير يصيب جنبلاط أكثر مما يصيب السنيورة وغيره، خصوصاً أنه ينتمي إلى جيل السياسيين ذوي الميول العسكرية، وله خبرة طويلة في استخدام الأسلوب العسكري في فرض وقائع سياسية جديدة على الأرض، ومعارك الحرب الأهلية السيئة الذكر خير شاهد على ذلك. إن هذا الكلام يولد سؤالاً في غاية الأهمية: إن جنبلاط خير من يعرف قدرة «حزب الله» والمعارضة العسكرية على احتلال لبنان من أقصاه إلى أقصاه في مدة لا تتجاوز الـ48 ساعة. وكان يقول هذا الكلام بمختلف اللغات الأجنبية خصوصاً الفرنسية والإنكليزية، فلماذا دفع السنيورة وبالتالي الموالاة، وهو جزء أساسي منها إلى هذه «المحرقة السياسية»؟

السؤال الثاني والمهم يتعلق بدور الجيش وقوى الأمن الداخلي. هناك أكثرية شعبية تثني على الدور المحايد الذي لعبه الجيش بالرغم من إصابة هيبته بجروح يمكن الشفاء منها. إن قيادة اليرزة العسكرية سارت حسب مبدأ مبسّط: إن صيانة وحدة الجيش أكثر أهمية من المحافظة على هيبته. فمن دون الوحدة ينتهي الجيش. أما خسارة الهيبة فهي مؤقتة ويمكن استرجاعها بسهولة فيما بعد. من هذه الزاوية فإن القيادة العسكرية ارتفعت إلى مستوى المسؤولية وضمنت للبنانيين وجود مؤسسة عسكرية موحدة يمكن أن تكون عاملاً مساعداً على وقف انتشار الحرب الأهلية، في حال نشوبها، لا سمح الله. كذلك أثبت هذا الموقف الجريء سقوط الرهانات على الخارج، وعلى السياسيين من هؤلاء المراهنين المدمنين.

إن استمرار الرهان على الخارج هو، باعتراف الجميع، رهان خاسر ومدمّر. والدليل أن الغرب أثبت عجزه عن تحويل محبته لـ«لبنانه» إلى حاملات طائرات وصواريخ عابرة للقارات، وجيوش جرارة لاستنساخ عراق جديد أو غزة جديدة. على الأقل في الوقت الحاضر. واكتفى بالتصريحات التأييدية لحكومة السنيورة، مع الاستمرار في اللعب بعواطف اللبنانيين الشديدة الحساسية لإبقاء جذوة الحرب الأهلية مشتعلة. والشرق يمارس هذه اللعبة مع فارق بسيط هو أنه سيعطي بعض ما يملكه من «البترودولار» لإبقاء لبنان ساحة لصراع الآخرين.

أما إسرائيل التي لايزال يراهن عليها البعض فهي اليوم أكثر حرصاً وأشدّ خوفاً من الوقوع مرة ثانية في «سوء تقدير» ثانٍ في لبنان، لأنها لم تشف بعد من جراح سوء التقدير الأول في حرب يوليو 2006.

* كاتب لبناني

back to top