كوتشوك هانم
كتبتُ كثيرًا عن الراقصة المصرية القديمة والمعروفة كوتشوك هانم التي اشتهرت بـ»رقصة النحلة»، في كل مرة أفكر أن أكتب عنها قصة أو رواية، أو يمكن أن تكون بطلة لفيلم سينمائي من نوع آخر، هي مثل بديعة مصابني بحضورها في عالم الأسرار، بديعة لم نجد منها الا سيرتها المنسية في بعض الكتب عدا عن اسمها الباقي في منطقة شتورا البقاعية كواجهة لأحد محال بيع اللبنة والجبنة ومشتقاتهما، كوتشوك هانم أكثر حضورًا منها لأنها تقترب الى أن تكون وهمًا او حكاية بوجوه كثيرة، وشكلت لغزاً محيّراً للكتّاب. لغزها هذا يستشري في الحكايات التي كثرت حولها وصارت أشبه بالتعاويذ التي تستولي على القلوب والعقول. أكثر ما يتجلى هذا اللغز في علاقتها بالكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير صاحب رواية «مدام بو فاري». لعل الشرق الذي كان فلوبير يتخيله هو الذي جعل من كوتشوك هانم هذا اللغز المخدّر. عثر عليه الكاتب الشهير مجسّداً بالراقصة نفسها التي صارت رحلة أسطورية في الخيال الأدبي لكتّاب وشعراء وفنانين كثر، بل صارت بطلة سحرية للكثير من الكتابات الاكزوتيكية والغرائبية.
كتب الباحث اللبناني فاروق سعد عن «فتح ملف كوتشوك هانم»؟ الكتاب الذي يتضمن مادة غنية لم يحمل تحليلا جديدا، لكنه شكّل مفتاحًا لكتابة مقالات كثيرة من الكاتبات والروائيين، وهم أغدقوا في تأويل شخصية كوتشوك هانم وفي لغزها المحير الذي يشبه سحر الف ليلة وليلة. اذا كان الذين كتبوا عن كوتشوك هانم، رحالة او باحثين، أجمعوا على أنها هي صفية التي كانت محظية لعباس باشا الأول، فإن هناك من ذهب أبعد من ذلك، بالقول إن كوتشوك كانت زوجة له. لكن فاروق سعد يجد أن الذين كتبوا عن كل من صفية او كوتشوك هانم وأصلهما وفصلهما، لم يكونوا على صواب في ما ذهبوا إليه او زعموه، فلا صفية ولا كوتشوك هانم كانت يوماً محظية او مستولدة او زوجة لعباس الأول. بصرف النظر عمّا اذا كانت هذه المرأة منتمية الى عالم الخيال أو تعيش في عالم الواقع، وبصرف النظر عما تمثله كوتشوك هانم بالذات وما ترمز اليه من الناحية الأدبية والجمالية عند الناقد اللبناني عمر فاخوري، وما حلله من الناحية الفلسفية عامة والنفسية خاصة الفيلسوف جان بول سارتر، وعالجه من الناحية الأخلاقية والاجتماعية المفكر ادوارد سعيد وعالجه الباحث المصري ثروت عكاشة من الناحية التاريخية، وبحثته من الناحية الأدبية والسياسية الكاتبة السورية رنا قباني، فإن هؤلاء الأربعة يسلّمون من دون تحفّظ، بالوجود التاريخي لهذه المرأة، فقد نبهوا بشكل غير مباشر، الى المدى البعيد الذي وصل اليه الوهم بغوستاف فلوبير خصوصا في وصفه كوتشوك هانم ورقصها. المرأة الشرقية هي مناسبة وفرصة لتأملات فلوبير، فهو مسحور باكتفائها الذاتي، بلا مبالاتها العاطفية، وكذلك بما تسمح له، وهي تستلقي الى جانبه، بالتفكير به. في كونها عرضاً لأنوثة باهرة أكثر منها امرأة، فإن كوتشوك هي النموذج البدائي لشخصيتي فلوبير، سالامبو وسالومي. انتهى زمن الراقصات في زمن «الفيديو كليبات»، بل انتهى عبق الرقص الشرقي لمصلحة رقص الصورة والحركة الميكانيكية، وثمة موجة جديدة هي غزو الرجال للرقص الشرقي عدا عن غزو الأجنبيات. في البداية، كان الغرب مسحورًا بعالم الراقصات الخيالي، اليوم يبدو أن العولمة «تطحن» كل شيء، او تجل كل شيء منتشر الى حد فقدان هالته وسحره، بات بمقدور كل فتاة في زمن العولمة أن تقف قبالة الكاميرا وتهز بخصرها وصرتها، وتزيد احتمال موت الأشياء والفنون، بل من تبدّل مصائرها.