إذا كانت الخبرة العربية عند تأسيس جامعة الدول العربية محدودة وضعيفة، فإنها بدأت تتوسع بإنشاء: مجلس الوحدة الاقتصادية ومعاهدة الدفاع العربي المشترك «عام 1950»، خصوصاً بعد تطوّر الصراع العربي–الإسرائيلي بفعل عدوان إسرائيل المتكرر. ولعل خبرة نحو 64 عاماً من العمل المشترك بما له من سلبيات كثيرة وبعض الإيجابيات، تجعلنا نتوقف عند مراجعتها من خلال القراءة الانتقادية لنؤكد:

Ad

1- إخفاق الجامعة في حل النزاعات العربية–العربية، رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها، لكنها لم تتمكن من الحيلولة دون اندلاع الحروب والغزو واستمرار النزاعات، ولعّل كارثة غزو الكويت وما تبعها خير دليل على ذلك، وكما أن الاستقطاب الأخير بخصوص غزة وقبله لبنان دليل آخر على أن الأزمة ضربت أطنابها في العمق العربي، لدرجة أن فاصلاً زمنياً بين قمة الدوحة وقمة الكويت لا يتجاوز يومين فقط، وهو ما يعكس التباعد في المواقف والتعاكس في الاستقطابات.

2- إخفاقها في التوصل إلى حلّ عادل ومقبول للقضية الفلسطينية سواءً بتمكين الشعب العربي الفلسطيني من تقرير مصيره وإقامة دولته الوطنية أو إعمال حق العودة أو استعادة الحقوق العربية في القدس أو معالجة موضوع المستوطنات أو غيرها. ورغم النجاح الذي تحقق للعرب والفلسطينيين في السبعينيات في الأمم المتحدة وعلى المستوى الدولي، إلاّ أن توقيع بعض البلدان العربية على معاهدات للصلح المنفرد خارج نطاق الجامعة قد أضعف من مواقفها، فلم يتوصل العمل العربي المشترك إلى أي معالجات جدية يستطيع أن يلوّح بها بما يتوافر لديه من إمكانات، وإذا ما تجاوزنا المبادرة العربية التي عرضها الأمير (الملك) عبدالله في مؤتمر قمة بيروت، فإنه طيلة ستة عقود من الزمان، لم يكن هناك خطة عربية مجمع عليها بشأن القضية الفلسطينية.

3- إخفاقها في تجنيب العديد من البلدان العربية نتائج الحصارات الدولية، كما حصل إزاء العراق وليبيا والسودان وغيرها.

4- إخفاقها في تجنيب البلدان العربية الحروب التي عانتها سواءً العدوان الإسرائيلي المتكرر أو حربي الخليج الأولى والثانية وما تبعها من حروب واجتياحات.

5- إخفاقها في تجنيب الشعوب العربية من انفراد حكوماتها بها والتغوّل عليها وانتهاك حقوق الإنسان وإلحاق ضرر بالتنمية والديمقراطية.

ومع أن «الجامعة» أحرزت بعض النجاحات في ميادين متعددة اقتصادية واجتماعية وقانونية وتربوية وثقافية ورياضية وغيرها فإن تعثرها السياسي في المجالات المشار إليها جعل صورتها تبهت أمام الرأي العام الذي لم ينظر إلى مبادراتها بشكل جدي أحياناً واستناداً إلى تلك المعطيات تكوّن حولها رأيان:

الأول: يقول إن «الجامعة» شاخت وانتهى دورها، ولم يعد بالإمكان إصلاحها، والأجدر عدم الرهان على كيان يتدهور باستمرار وينحدر نحو الحافة، وحتى لو َصلحُ هذا الكيان في منتصف القرن الماضي، فإنه لا يصلح للقرن الحادي والعشرين.

ومثل هذا الرأي سائد لدى أوساط شعبية واسعة بسبب حالة الإحباط التي أصابت الأمة العربية ونكوص القضية الفلسطينية، وأخيراً احتلال العراق واستمرار المشكلة اللبنانية–السورية التي توّجت بمقتل الرئيس رفيق الحريري التي زادها العدوان الإسرائيلي عام 2006 التهاباً، يضاف إليها مشكلة دارفور والانقسام الذي حصل ما بعد العدوان على غزة. وكذلك بسبب النقمة على مواقف «الجامعة» التي يريدها البعض أن تنتصر له وللمواطن العربي في كل مكان، حيث يتعرض للاستلاب والحرمان والإذلال، لكنها غير قادرة على إنقاذه أولاً بسبب ميثاقها وآليات عملها المتخلّفة وثانياً بسبب الأزمة العامة التي تعانيها الدول الأعضاء والنظام الإقليمي العربي، وأسباب أخرى.

وهذا الرأي وإن كان له ما يبرّره إلاّ أنه لا يأخذ بنظر الاعتبار، أن غياب كيان أو إطار مؤسسي عربي جامع، رغم نواقصه وعيوبه وثغراته سيؤدي إلى نوع من الفراغ، ناهيكم عن عدم وجود بديل يصلح لتبادل الرأي والحوار والتعاون في بعض الأنشطة المشتركة وإن كانت بحدّها الأدنى، ليس على صعيد السياسة التي قلنا: إن «الجامعة» فشلت فيها، ولكن على صعيد الاقتصاد والاجتماع والثقافة والعلوم والتكنولوجيا والصحة والمواصلات وغيرها، إذ إن عدم وجـود أطـر ومـؤسسات لعمـل عربي مشترك، سيشكل نقصاً كبيراً وفادحاً لا يمكن سدّه بإلغاء كيان الجامعة، بل يمكن بإصلاحه ومعالجة أسباب الخلل، ناهيكم عن معالجة الوضع العربي الرسمي على مستوى كل بلد عربي. ولعل هذه المعالجة التي تحتاج إلى مراجعة حقيقية للتجربة على مدى ستة عقود ونيف من الزمان وتجديد جذري وإن كان على مراحل باتخاذ خطوات بالاتجاه الصحيح.

الثاني: يقول بدلاً من إلغاء «الجامعة» أو حلّها وتصفية مؤسساتها، فإن على قوى المجتمع المدني العربي «الموازي» ومؤسساته والقوى والأحزاب السياسية الشعبية ممارسة دورها وتحمل مسؤوليتها، من خلال ضغوط متنوعة تمارسها على «الجامعة». ولا يكفي في هذا المجال أن تكون هذه المنظمات قوة احتجاج واعتراض فحسب، بل هذا هو المهم أن تتحول إلى قوة اقتراح وشراكة، فلعل ذلك ما يجعل النظام العربي الرسمي يتحمّل هو الآخر مسؤولياته، بل يعرّضه بهذا المعنى للمساءلة من خلال الرقابة والشفافية ومشاريع الاقتراحات، خصوصاً بعد أن وصلت الاوضاع الرسمية العربية إلى طريق مسدود، فقد قادت سنوات اللامبالاة والتنصل عن المسؤولية والانكفاء القطري إلى الفشل وتعطيل وإجهاض العمل العربي المشترك وكانت النتائج وخيمة على الجميع.

لقد علّقت الكثير من البلدان العربية قضايا التنمية والديمقراطية والإصلاح واحترام حقوق الإنسان على الصراع العربي-الإسرائيلي، ومعها دحرجت الجماهير التي ذاقت الأمرّين إلى القاع، وإذا بها تكتشف بعد ما يزيد على ستة عقود ونيّف من الزمان، أن التنمية والديمقراطية التي تمت التضحية بهما أو الاستعاضة عنهما بالعسكرة وشد الأحزمة على البطون، بحجة الخطر الخارجي الذي يدّق على الأبواب، لم تستطع تحرير الأرض والإنسان، من جهة ومن جهة أخرى لم تستطع مواكبة التطور العالمي في ميدان التنمية والديمقراطية، والأمر سواء في بلدان اليُسر وفي بلدان العُسر.

لكن الرهان على المجتمع المدني العربي والحركة الشعبية، هو الآخر رهان غير مضمون في ظل الأوضاع السائدة، فهي تعاني بشكل أو بآخر ما تعانيه الأنظمة، من هشاشة الهياكل والتراكيب والبُنى، ناهيكم عن ضعف الشفافية والديمقراطية داخل صفوفها، وتشبت بعض قياداتها أحياناً بمواقعها لعقود من الزمان بتقديمها الخاص على العام، ويحدث أحياناً التضحية بالكيانات التي تمثلها بدلاً من التخلي عن مواقعها التاريخية «المعتقة»، إضافة إلى شخصنتها وتحويلها إلى «ممتلكات» خاصة مما يجعلها غير مؤهلة على تبنّي مشروع قادر على إجراء هذه المراجعة من جهة، ومن جهة أخرى التقّدم ببدائل ومقترحات للإصلاح على الصعد السياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في ظل أوضاع تثير الكثير من التشاؤم والقنوط. قد يكون تعزيز وتطوير المجتمع المدني الموازي ومن ثم إقرار «الجامعة» بدوره وأهميته أحد المخارج الأولية لمعالجة أزمة «الجامعة» الشاملة والبنيوية وبحث مستقبلها سواءً ضمن استراتيجيات بعيدة المدى أو ضمن خطط قريبة للإصلاح، وبالتعاون بين الحكومات والمجتمع المدني وجامعة الدول العربية، ولعل دعوة مؤتمر القمة الاقتصادية الاول في الكويت للمجتمع المدني ومؤسساته (يناير 2009) هو خطوة أولى على طريق الاعتراف بدوره، الأمر الذي يتوقف على مدى تقدم العلاقة لاحقاً وفهم كل منهما (الحكومات والمجتمع المدني) لواجباته، لاسيما باعتراف الحكومات بشراكة فعالة مع المجتمع المدني.

إن حدثاً كبيراً ومفصلياً مثل 11 سبتمبر الإجرامي الإرهابي الذي حصل في الولايات المتحدة وهزّ العالم لفت الانتباه إلى أن الحكومات لم تكن مستثناة من «الاتهام» بتشجيع أو بالضلوع في الإرهاب الدولي تحت حجة الخطر الإسلامي المزعوم، الأمر الذي وضع الجميع بلا استثناء في العالمين العربي والإسلامي في قارب واحد، حكومات ومعارضات، سلطات ومؤسسات مجتمع مدني، دولاً وأفرادا، لاسيما وقد أعقبه احتلال أفغانستان والعراق وعدوان على لبنان وغزة وانفلات عنف لم يشهد له العالم مثيلاً، بما يقتضي بحثا جادا ومسؤولا إزاء ما يمكن تصوره بعد 64 عاماً على تأسيس جامعة الدول العربية وإزاء النظام الإقليمي العربي ارتباطاً مع الأزمة المعتقة.

* باحث ومفكر عربي

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء