حديقة الإنسان: مشارط وأقلام

نشر في 29-08-2008
آخر تحديث 29-08-2008 | 00:00
 أحمد مطر هناك مشهدان مستقران في نفسي للعلاقة بين الطبيب والمريض، رسمهما كاتبان خلال سردهما لتجاربهما العملية الاولى في العقد الثاني من القرن العشرين، عندما وضعتهما الظروف كشاهدين على تلك العلاقة.

وعلى الرغم من أنّ الكاتبين لم يكونا غير شاهدين محايدين لا يملكان سوى نظرة العين وخفقة القلب الحسّاس، فإنّهما بتسجيلهما للمشهدين قد أثبتا أنّ قلم الكاتب أقوى أثراً من مشرط الطبيب، وأن لشهادتهما المجرّدة حكماً أمضى من كلّ أحكام القضاء، وأبقى من عمر الكاتب والطبيب والمريض على السّواء.

يروي الأديب العظيم (يحيى حقّي) رحمه الله، في كتابه «خلّيها على الله» تجربة لقائه، خلال فترة عمله كوكيل إدارة في الأرياف، بطبيب مركز كان كلّ همّه الإثراء العاجل بأيّ ثمن... فيقول:

«لا تبرح ذهني ذكرى جلسة لي مع هذا الطبيب فوق مقعدين على الجسر عند القرية، ننتظر إصلاح السيّارة. تلّفنا ليلة غطيسة غابت نجومها... وجرى بيننا -دفعاً للانقباض- سمر لذيذ، تتخلّله الضحكات العالية، ثم إذا بأذني تسمع من تحت الجسر صوتاً خفيضاً يهمس بتوسل ذليل:

- يا دكتور، سايق عليك النبي، أنا في عرضك اعمل معروف...

قطع الدكتور كلامه لي، والتفت مصدر الصوت -وأنا لا أرى صاحبه- وصرخ:

- هات الريّال وتعال..

- ما عنديش الليلة دي، ما احكمش على قرش واحد، من فضلك وإحسانك.. أنا تعبان بالحيل.. حاتفرتك،

- ذنبك على جنبك.

سألت الدكتور عن الذي طلبه منه الرّجل، والعجيب أنه أجابني بلا خجل وهو يضحك.. أنّه فلاّح عنده حصوة في المثانة، تتحّرك أحياناً فتمنعه من التبوّل، فإذا حدث له هذا جرى إليه في المركز فسلك له مجرى البول بالقسطرة لقاء ريال كلّ مرة.

- والقسطرة مش معاك دلوقتي؟

- أيوه..

- وفيها ايه لو تريّحه حرام عليك.

- سيبه ده ابن كلب، الريّال أحسن من عينه.

وقمنا الى السيارة ولايزال الشبح تحت الجسر ينادي:

- يا دكتور سايق عليك النبي، أنا ح اتفرتك»!

وفي الفترة ذاتها على الجانب الآخر من المحيط كانت هناك تجربة أخرى جمعت الرّوائي الأميركي الشهير «أرسكين كالدويل» صاحب «طريق التّبغ» بطبيب محلّي من الجنوب، وهو يرويها عرضاً في كتاب سيرته المهنية ككاتب «سمّها خبرة»، يقول كالدويل:

«في فترة مبكرّة من صيف 1919 بدأت أقوم بجولات يوميّة خلال الأرياف، بصحبة طبيب محليّ، كان مرضاه منتشرين في أماكن متباعدة قد تفصل بين الواحد منهم والآخر أميال عدّة.

كانت مهمّتي هي أن أقود السيارة دون مقابل، ودون أن أتقاضي حتى تكاليف الاصلاحلات الصغيرة التي كانت تحتاجها السيارة، كما لم أكن أتوقع أي مكافأة من وراء ذلك فقد كان اهتمامي كله منحصرا في رؤية كيف يعيش الناس في الأرياف، وقد كنت سعيدا بأن تتاح لي فرصة كهذه.

في بعض المرّات كان الطبيب يتنقّل بين بيوت المرضى طول الليّل، وكان ينام نوماً عميقاً خلال انشغالي بتبديل إحدى العجلات المعطوبة، أو في أثناء قيادتي السيّارة من منزل الى آخر.

ولم يكن ذلك الطبيب ليميّز بين أولئك الذين يستطيعون دفع ثمن أو أولئك الذين لا يستطيعون. فإضافة الى عدم تقاضيه أجراً عن فحص المرضى المعوزين، كان كثيراً ما يوفّر لهم الأدوية الضرورية كذلك، وغالباً ما رأيته بضع دولاراً أو دولارين على كرسي أو منضدة قبل أن يغادر بيتاً من بيوت هؤلاء»!.

وبعيداً عن هذين المشهدين المتنافرين لوقوف الكاتب بين الطبيب والمريضن تلوح في الذهن ذكرى لقاء آخر بين هذه الأطراف الثلاثة، تم في فترة سابقة قليلا على اللقاءين السالفين، في صقيع بعيد من أصقاع شرق أوروبا.

المفارقة في هذا اللقاء هي أن جميع أطرافه كانوا شخصا واحداً، وأنّ كل طرف منهم كان شديد الحسّاسية!

فالكاتب، في هذا المشهد، إنسان عظيم الموهبة بالغ النّبل، يجري الكلمات على الورق لحناً إنسانيا خالد الأثر في نفوس الناس جميعا قراء وكتاباً... والطبيب كذلك إنسان كبير القلب فائض الرقة، يطفئ صحته من أجل رعاية مرضاه، وغالبا ما يأخذ سمت ذلك الطبيب الأميركي في تجربة «كالدويل». أمّا المريض فهو إنسان رقيق جدا وحسّاس جداً، وعلى معرفة دقيقة بتفاصيل مرضه، ولعلّه لذلك لم يستطع مقاومة المرض، الأمر الذي جعله يرحل شهيداً، ويجرّ معه الى بارئه الكاتب الشاهد والطبيب المشهود!

ربّما بسبب من هذا التوحّد، لم يستطع القلم في هذه الحالة أن يكتب شهادته على المشرط والعلّة، لكن آثار الفيض الإنساني لكل هذه الأطراف الموحدّة جعلت الكثيرين، في مشارق الأرض ومغاربها، يتطوعون لكتابة هذه الشهادة في صفحات لا انقطاع لها ملؤها الحبّ والتقدير.

إنّه الكاتب الروسي الفذّ (أنطون تشيخوف).

* شاعر عراقي

back to top